ما أكثر تلك الحكايات التى حيكت حول تلك المرأة فصارت أسطورة فى النفوذ والسطوة والقدرة على تغيير مصائر التونسيين، بل وصل الأمر إلى حدود قصر الحكم التونسى الذى تسربت منه الشائعات قبل اندلاع الثورة التونسية تتناول نية حاكمة قرطاج، كما كانوا يطلقون عليها، الإطاحة بزوجها والدعوة لانتخابات مبكرة تخوضها لتتولى الحكم فى تونس من بعده.
هكذا عرفنا ليلى الطرابلسى، زوجة الرئيس التونسى السابق زين العابدين بن على، وتابعنا أخبارها حتى قبل رحيلها بساعات عن تونس بصحبة زوجها وأسرتها خوفاً من غضب الجماهير عام 2011، وها هى تعود للأضواء مجدداً لتروى مذكراتها لإحدى دور النشر الفرنسية، والتى ترجمتها دار نهضة مصر للنشر فى مصر وتُطرح فى الأسواق خلال الأيام المقبلة تحت عنوان «حقيقتى.. ليلى بن على». لتحكى فيها ملامح من سيرتها الذاتية، وتحاول تبرئة نفسها وزوجها من كل ما وُجِّه لهما من اتهامات لاحقتهما بعد رحيلهما عن تونس، فلا تستخدم ذات التعبيرات التى نستخدمها فى توصيف ما حدث فى تونس، بل ترى أنها ووطنها تعرضا لمؤامرة قادها انقلاب عسكرى امتطى ثورة الياسمين لتحقيق أهداف دولية.
هى تعترف أن هناك أخطاء ارتُكبت من قبَل نظام حكم زوجها الذى سمح لبعض من أفراد عائلتيهما بالاستفادة المادية من وجوده، لكنها لا ترى أن تلك الأخطاء كانت تستحق كل ما حدث!
تدرك وأنت تقرأ سطور الكتاب أن قصص التاريخ واحدة فى ملامحها، وأن التفاصيل فقط هى التى تختلف، ولكن يغفل الكثيرون عن استيعاب دروس التاريخ فيكررون نفس الأخطاء متناسين لحظة إسدال الستار. ويا لها من لحظة تسقط فيها الأقنعة وتضيع فيها الهيبة وتتلاشى فيها قيمة الثروة فتُهان الكرامة. وتبقى كلمة النهاية للتاريخ الذى لا يستمع لمبررات من لا يعقلون دروسه..
نشوى الحوفى
حقيقتى..
تبدأ ليلى بن على مذكراتها بمقدمة تصر فيها على توضيح أسباب إقدامها على كتابة تلك المذكرات، مؤكدة أنها قررت أن تكتبها من أجل التاريخ الذى حكم عليها دون أن يسمعها على حسب وصفها، مكتفياً بنشر ما روّجه عنها أعداؤها هى وزوجها. مشيرة إلى أنها تُهدى تلك الشهادة للكثيرين، يأتى فى مقدمتهم شعب تونس الذى ظلمها، وأبناؤها وأحفادها حتى لا يخجلوا يوماً من الاسم الذى يحملونه، وأخيراً لزوجها بن على الذى لم تكفّ قط عن حبه، وهو ما تعبر عنه بالقول: «دعونى أبُحْ لكم ببعض ما فى نفسى وانطباعاتى عما يصلنى من أحاديث، فالبعض يخبرنى بأن الشعب يكرهنى، وهو ما أرفض تصديقه احتراماً منى لشعبى. ويقولون لى إن أصدقاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم، فلا أملك سوى أن أسامحهم. ويقولون لى إن المستجدين القدامى لبسوا عباءة أبطال الثورة، وقد اخترت أن أشفق عليهم. لن أصدق هذه الادعاءات، ولن أعير اهتماماً للأكاذيب أو الإشاعات التى نُسجت حولنا منذ 14 يناير/كانون الثانى 2011 بغرض واحد هو تشويه سمعة عائلتى، وسمعتى بصفة خاصة. أما وسائل الإعلام فقد انغمست جميعها فى هذا الأمر بتلذذ. ودفعت بنا الدعاوى الزور التى أقيمت ضدنا إلى حصد إدانة الجماهير».
تلحظ عند متابعتك سطور الكتاب تلك الحالة الحزينة والمتواضعة التى تتكلم بها ليلى بن على وتسيطر عليها فى محاولة لسرد الحقائق من وجهة نظرها بالطبع. ولكنك لا تستطيع تجاهل ما ترويه من كواليس الأحداث فى تونس والتى تبدأها من يوم الرابع عشر من يناير عام 2011، اليوم الذى رحلت فيه هى وزوجها عن تونس التى لم تعد لها حتى اليوم رغم صدور حكم بالسجن ضدهما لمدة 35 عاماً بتهم الفساد وغرامة 91 مليون دينار تونسى، وهو ما يعادل 65 مليون دولار. ولذا تبدأ ليلى بن على فصول كتابها بفصل عنونته بـ«وقائع انقلاب مدبَّر»، مؤكدة أن بن على لم يكن ينتوى الهرب من تونس كما قيل وقتها، ولكنه أُجبر على تركها هو وأسرته من قبَل المحيطين به والمشاركين فى الانقلاب وعلى رأسهم على سرياطى، مدير الأمن الرئاسى، الذى لا تخفى ليلى اتهامها له بالإشراف الكامل على هذا الانقلاب. تبدأ سطور الفصل بالحديث عن صبيحة يوم الجمعة 14 يناير قائلة: «فى ذلك الصباح، استيقظت من النوم فى منزلنا بسيدى بوسعيد فى نحو الساعة الثامنة صباحاً. كانت الأنباء تصلنى منذ عدة أيام غير مُطمئنة. بعد أن اجتاحت البلاد موجة من الاحتجاجات اندلعت فى بعض مناطق الجنوب والوسط، ووصلت أصداؤها للعاصمة وانتشرت فيها. وانتاب عائلاتنا قلق بالغ، وبخاصة بعد أن شاهدتْ زوجة أخى السابقة منزلها يحترق فى اليوم السابق. ولجأت إلى منزلنا أختى جليلة هى وأسرتها عندما تم تحذيرها من وجود عصابات عازمة، على ما يبدو، على نهب ممتلكات آل طرابلسى وتهديد حياتهم. نفس الشىء حدث مع أخى بالحسن. لقد كنا نعرف بالتأكيد أننا نعيش لحظات حرجة، ولكننى لم أكن أتخيل أن الوضع سيتدهور وتصل الأمور إلى ما وصلت له، أو أننا سنضطر للرحيل بعد بضعة ساعات. لقد تفاجأت يومها برؤية أفراد عائلتى يتقاطرون إلى منزلى؛ أشقائى وشقيقاتى وأبناء أشقائى وأطفالهم، وزوجات أشقائى، وبعض أقارب بن على. بدا على الجميع اضطراب شديد، وكانوا يتحدثون عن خطر جسيم على وشك الوقوع. كان على سرياطى، مدير الأمن الرئاسى، قد أرسل إليهم سيارات الدفع الرباعى التابعة للرئاسة، دون علمى، حتى يجمعهم عندى فى سيدى بوسعيد، مما أذهلى؛ إذ إننى لم أطلب مثل هذا الطلب بأى صورة من الصور، ولم أبعث بمثل هذه الرسالة لعائلتى من خلال سرياطى».
لا تخفى ليلى بن على شكوكها فى سرياطى رئيس الأمن الرئاسى منذ السطور الأولى للكتاب، فتشير إلى أنه فاجأها ذلك اليوم بمطالبته أفراد عائلتها بسرعة مغادرة البلاد. مبرراً ذلك بالحرص على حياتهم من الأحداث التى اجتاحت تونس وعدم القدرة على التنبؤ بما ستسفر عنه التطورات، وكيف أنه تكفّل بحجز أماكن على متن الرحلات المتجهة إلى ليون بفرنسا وطرابلس فى ليبيا لأفراد العائلة وهو يطمئنهم بأنهم سرعان ما سيعودون لتونس بعد هدوء الاضطرابات.
تلمح فى تلك السطور ذلك الخوف الذى يصحب تلك اللحظات فى حياة من اعتادوا أن يأتمر الناس بأوامرهم، ولكنه خوف ممزوج بعدم التصديق بأن لحظة النهاية قد حانت، وأن ما يقومون به من إجراءات يعجّل بتلك النهاية التى لم يتوقعوها. تدرك هذا وأنت تقرأ كلمات ليلى بن على وهى تحكى كيف كانت تساعد أفراد عائلتها، الذين توافدوا على منزلها، على الرحيل، دون أن تدرك أنها ستضطر مثلهم للمغادرة بعد ساعات. وهو ما تقول عنه: «فى نحو الساعة الثالثة والنصف، تلقيت اتصالاً هاتفياً من قصر قرطاج؛ كان زوجى هو المتصل وعرض علىّ أن أسافر لأداء مناسك العمرة بصحبة ابنى محمد وابنتى حليمة، فسألته مندهشة: ولماذا هذا السفر المفاجئ إلى المملكة العربية السعودية؟ فأجابنى بن على: فترة وجيزة حتى تعود الأوضاع لطبيعتها. ستعودون خلال ثلاثة أو أربعة أيام. لا بد أنه على سرياطى هو من همس له بهذا الاقتراح، أنا واثقة من ذلك، إلا أننى لم أفهم سر الحتمية والعجلة؛ إذ كيف لى أن أصدق أن بضعة آلاف من المتظاهرين يمثلون خطراً يصل لحد اضطرارنا للرحيل؟».
ما زالت هى حتى تلك اللحظة فى روايتها فى مرحلة عدم التصديق لما يجرى حولها، فهى لا ترى فى المظاهرات المندلعة سوى هبّة بضعة آلاف من التونسيين الذين يمكن السيطرة عليهم أو تهدئتهم، معتمدة فى ذلك، كما تقول، على ثقتها فى زوجها الذى كان ملقّباً فى تونس بلقب «جنرال الأزمات». توقعت ليلى أنه سيجد الوسيلة التى يعيد بها الهدوء للبلاد، ولكن تلك الأزمة كانت أكبر من قدرات الجنرال بن على كما تبدَّى.
** سرياطى: «لابد للرئيس أن يرحل»
تحكى ليلى بن على كيف توجهت هى وابنتها حليمة وابنها محمد ذو الست سنوات وخطيب ابنتها فى الرابعة عصراً لقصر قرطاج، حيث يوجد زوجها لتوديعه قبل رحيلهم للمملكة العربية السعودية، مؤكدة أنهم لم يمتلكوا الوقت لتحضير حقائبهم، كما لم يظنوا أنهم بحاجة للكثير من الأمتعة لاقتناعهم بأنهم لن يغيبوا عن تونس سوى بضعة أيام. ولذا تنفى ما قيل عن اصطحابها أطناناً من الذهب والمجوهرات عند رحيلها عن تونس قائلة: «لم آخذ معى مجوهراتى أو ملابسى الفاخرة أو حتى ملابسى اليومية البسيطة، كما لم يكن بحوزتى مال ولا جواز سفر. لقد تحدثوا عن أطنان من الذهب وقالوا إننى استوليت عليها من البنك المركزى التونسى ورحلت بها، وهو ما نفته إدارة البنك فى حينها، ورغم ذلك سرعان ما حاكوا شائعات كثيرة غيرها، مثلما ادّعوا العثور على مبالغ مالية طائلة فى قصر بوسعيد بعد رحيلنا عنه. وهو أمر طبيعى أن يكون لدينا أموال سائلة كما هو الحال دائماً فى الخزائن الخاصة برؤساء الدول، ولكنها مبالغ لا يمكن أن تصل 41 مليون دينار تونسى كما قيل وقتها».
تواصل ليلى بن على حكى رؤيتها لتلك الساعات التى سبقت رحيلهم مؤكدة أن زوجها لم يكن ينوى حتى تلك اللحظة مغادرة تونس، هم فقط من كانوا سيرحلون. وتروى أن أول ما لاحظته عند وصولها لبوابات قصر قرطاج، هو عدم وجود أى حراسة أمام السكن الرسمى لرئيس الدولة، وهو عكس المتوقع فى تلك الظروف التى تجتاح البلاد فيها اضطرابات عنيفة. فتقول: «لم يكن هناك حتى ظل خفير واحد، كانت الأبواب مفتوحة على مصراعيها. ولم يكن هناك سيارات حراسة ولا سعاة للخدمات. فقط دبابتان مصفوفتان بجوار الرصيف. كان ثمة انطباع بالغرابة وبوادر كارثة فى سبيلها للوقوع، تنبعثان من المكان، تماماً كوقت الحرب، فانقبض قلبى وسيطرت على نفسى هواجس بقرب حدوث مأساة. رأيت بعض أفراد الحرس الشخصى وسائقين، اقترب أحدهم منى قائلاً فى توسل: «أرجوكِ يا سيدتى، أخرجيه من هنا! يجب أن يرحل الرئيس!». نظرت له ساهمة دون أن أفهم معنى توسله، ولكننى واصلت تقدمى باتجاه المكتب الرئاسى، حيث كان زوجى محاطاً بمدير التشريفات الرئاسية محسن رحيّم، ومدير الديوان الرئاسى عياض الودرنى، وصهره مروان مبروك -زوج إحدى بناته من زواجه الأول- الذى لم يمكث طويلاً. كان على سرياطى، مدير الأمن الرئاسى، يتحرك مضطرباً فى جميع الاتجاهات، مشيراً إلى مخاطر جسيمة».
لا تكفّ ليلى بن على عن الإشارة للدور الذى لعبه سرياطى فى إجبار زوجها على الرحيل بكافة الطرق، كما لا تكفّ عن تسجيل ملاحظتها لما كان يفعله فى تلك اللحظات مسلطة الضوء على الدور الذى لعبه الرجل -على حد وصفها- فى ما سمته الانقلاب، فبعد أن كان مجيئها لقصر قرطاج مع ابنتها وخطيبها وطفلها الصغير سببه توديع زوجها قبل الرحيل، فوجئت بسرياطى يقنع زوجها بن على بمرافقتهم للمطار لتوديعهم هناك كعادته، وهو ما تردد فيه بن على لبضع دقائق قبل أن يعلن موافقته عليه فى النهاية. وهو ما تقول عنه: «طلب الرئيس أن يذهب أحدهم لإحضار جوازات السفر الخاصة بنا من المنزل. حينئذ صاح سرياطى قائلاً: «أى منزل؟ وأية جوازات؟ ليس أمامنا وقت، يتعين الرحيل فوراً!». وفجأة احتدم كل شىء، وبدا الفزع واضحاً على البعض، ولم يعد للمنطق مكان. ومع ذلك، رفض زوجى أن يترك مكتبه، وقال لسرياطى: «اصطحبهم أنت سأظل أنا هنا». فبدا سرياطى وكأنه لم يسمعه وأصر على رأيه. وكانت حجته أن القصر يمكن أن يتعرض للتفجير فى أية لحظة، من قبَل المروحيات التى قال إنها تحوم حوله، بالإضافة لخفر السواحل الذين قد يهاجمونه من البحر. لم أكن أرى، شخصياً، أية مروحيات، ولم أفهم مغزى هذه العبارات التى اعتبرتها هذياناً من سرياطى».
تحكى ليلى بن على عن توتر الأجواء ورفض زوجها اقتراحات سرياطى وصمتها أثناء متابعة الموقف الذى لم ينته إلا بإعلان حليمة ابنتها نيتها عدم الذهاب للمطار فى حال عدم ذهاب بن على معهم لتوديعهم هناك، وهو التهديد الذى أذعن له بن على واضطره لمرافقة أسرته حتى المطار لإنهاء إجراءات مغادرتهم ثم العودة لقصر قرطاج لمتابعة الموقف. تخبرنا ليلى بن على فى مذكراتها كيف أنها تفاجأت هى وزوجها بتغيير وجهة سيرهم بعد مغادرتهم قصر قرطاج، فبدلاً من أن يتجهوا لمطار قرطاج الدولى، حيث اعتادوا المغادرة، اتجه بهم سرياطى إلى مطار العوينة المخصص للطيران العسكرى! وتزداد دهشتهم عند وصولهم بالحرس العسكرى يرفض فتح البوابة لهم، وهو ما اضطر سرياطى لترك سيارته وإصدار الأوامر للحرس بفتح البوابة، حيث توجهت سيارة بن على وسرياطى إلى مرآب الطائرة الرئاسية التى كان يتم إعدادها لهم. وتروى ليلى بن على فى كتابها «حقيقتى» أن المرآب كان يمتلئ بعشرات العسكريين المنتمين لوحدات مجابهة الإرهاب بالإضافة لأفراد من الحرس الوطنى، وموظفين من الأمن بالزى المدنى، وعسكريين، مشيرة إلى أن ما كان يفصلهم عن هؤلاء أفراد حرسهم الشخصى الذين كانوا يشكلون حاجزاً يحول بينهم وبين الآخرين. وحتى تلك اللحظة كان زين العابدين بن على ينتظر وداع أسرته كما اتفق مع رئيس أمنه الرئاسى، ولكن تغير المخطط عند إعلان سرياطى فجأة الاستيلاء على برج المراقبة فى المطار.. وهو ما تحكى عنه ليلى بن على قائلة: «ذهبت بسرعة لقائد الطائرة الرئاسية التى كانت ستقلنا، وسألته عما يحدث بالضبط، وما إذا كان تصريح سرياطى يعنى استحالة مغادرة البلاد، فسارع قائد الطائرة بإجراء اتصال هاتفى ثم عاد ليجيبنى قائلاً: «لا تقلقى يا سيدتى، لم يستول أحد على برج المراقبة، سنغادر»! لا أعلم هل كان سرياطى يروى أكاذيب أم أنه كان ضحية لمعلومات مغلوطة، ثم أفقت من تساؤلاتى على صوت سرياطى مجدداً وهو يقترح على زوجى الرحيل معنا، قائلاً: سيدى الرئيس، لا نعرف ما الذى يمكن أن يحدث، من الأفضل أن تصطحب عائلتك شخصياً إلى المملكة العربية السعودية، لن تخسر شيئاً بسفرك معهم، وغداً بعدما تهدأ الأمور وتعود إلى طبيعتها يمكنك العودة».
تحكى ليلى بن على عن مظاهر الذهول التى أصابت زوجها وهو يستمع لاقتراح سرياطى بالمغادرة معهم، سارداً عليه صوراً كارثية لما يمكن أن يحدث لو أصر على البقاء فى تونس وعدم الرحيل، إلى حد قوله بوجود مخاوف من احتمال قيام أحد أفراد الحرس الشخصى لبن على باغتياله، وهو ما دفع بن على لقبول الفكرة. هنا لا بد أن تتوقف قليلاً أمام رواية ليلى بن على التى تدحض ما تردد وقتها عن أن الرئيس التونسى السابق غادر تونس على متن طائرته من دون أن يحدد وجهته، وكيف أنه ظل معلقاً فى السماء وهو يتلقى رفض رؤساء الدول استقباله وفى مقدمتهم الرئيس الفرنسى بيرلسكونى الذى قيل إنه رفض استقبالهم فى فرنسا، والمصرى السابق مبارك الذى قيل إنه رفض توقف الطائرة للتزود بالمؤن فى مصر، وكيف أنه ظل لمدة ست ساعات يبحث عن مجير له ولأسرته حتى أعلنت المملكة السعودية قبولها استضافتهم، فرواية ليلى بن على تؤكد أن اختيار السعودية كان محدداً من البداية وأنهم توجهوا لها مباشرة دون أن يطلبوا من أحد استضافتهم، ولكننا لا نستطيع أن نجزم أى الروايتين أصح؛ رواية ليلى التى تريد أن تؤكد أنهم لم يطلبوا المساعدة وتخلى عنهم الآخرون؟ أم رواية فرنسا ومصر التى ربما سيقت وقتها لمنع بن على من طلب المساعدة وإحراجهما؟
نعود لرواية ليلى لتلك الأحداث فتجد أنها سرعان ما كشفت عن اتهامها لسرياطى بالكذب عند التحقيق معه فيما بعد، وكيف ذكر فى التحقيقات أنه لم يكن له أى دور حقيقى فى رحيل بن على، مؤكداً على فكرة هروب بن على. ولكن تتجاوز ليلى تلك النقطة فى مذكراتها لتنتقل بالحديث عن تلك الاتصالات التى كان يقوم بها زوجها وهو على متن الطائرة الرئاسية لمتابعة الموقف فى تونس، والتى بدأت بمكالمته لرئيس وزرائه محمد غنوشى منيباً إياه فى حكم تونس لحين عودته من السعودية فى اليوم التالى، وكيف علم من غنوشى بوجوده فى قصر قرطاج بصحبة عدد من الوزراء والمسئولين الذين تم استدعاؤهم للقصر بالقوة، ثم تحكى كيف حاول بن على الاتصال بسرياطى بعدها لكن بلا جدوى.. إذ لم يعد مدير الأمن الرئاسى يرد على هاتفه. وهو ما تقول عنه: «اتصل زوجى بفؤاد مبزع، رئيس مجلس النواب حينذاك، فكرر له كلام غنوشى حول مجىء رجال ملثمين إلى منزله واقتياده إلى قصر قرطاج دون أى تفسير، فاتضحت الصورة فى ذهنى وقتها، وبدا مؤكداً أن الذين أجبروا كبار الشخصيات فى الدولة على الانتقال إلى قصر قرطاج هم أنفسهم من دبروا مسألة رحيلنا على الطائرة لإبعادنا عن البلاد ومعهم أوامر بعدم عودة بن على، ثم تنبهت على اتصال زوجى برضا قريرة وزير الدفاع الذى قال له: «إنها كارثة، لقد وقعت هذا المساء مذبحة، نتج عنها عدد كبير جداً من المتوفيين، امكثوا فى المملكة العربية السعودية ليومين أو ثلاثة ولا تعودوا قبل أن يتم الاتصال بكم». أغلق بن على الهاتف واتصل بكامل لطيف صديقه القديم، الذى فضح نفسه وكشف عن نيته خلال حديثه الهاتفى مع زوجى، إذ اكتفى بقول عبارة تونسية: لقد تقاسمنا الماء والملح وبموجب الصداقة التى بيننا أنصحك بعدم العودة!».
لا تنسى ليلى بن على أن تصف طريقة استقبالهم فى السعودية لدى هبوط طائرتهم هناك، مؤكدة حرص العائلة المالكة على إظهار مظاهر التقدير لهم عبر مرورهم بالقاعة الشرفية ومرافقة موكب الحرس والسيارات الرسمية، ثم تروى كيف غادرت الطائرة الرئاسية التونسية السعودية بعد ساعة ونصف الساعة عائدة لتونس ليصبح بن على مُبعداً عن تونس، ويحل رئيس مجلس النواب، فؤاد مبزع، مكانه فى رئاسة الدولة.
وهكذا روت ليلى بن على أحداث ذلك اليوم الذى كان بمثابة مقدمة لجميع الثورات العربية التى أطاحت برؤساء آخرين غير زوجها، واضعة أمامنا جزءاً آخر من الصورة لا ينفى أنه كانت هناك ثورة خرجت من أجلها الجماهير تطالب بالحرية والعدالة والكرامة والمساوة والقضاء على الفساد، كما لا ينفى أن هناك مؤامرة استغلت تلك الثورة وركبت موجتها داخلياً وخارجياً. ولعلها صورة مكررة فى البلدان الأخرى التى تعرضت لذات الأحداث. تؤكد أنه قد قامت قيامة العرب برعاية حكام نسوا الله فأنساهم أنفسهم وأجهزة مخابرات دولية ستكشف عنها الأيام.
هكذا عرفنا ليلى الطرابلسى، زوجة الرئيس التونسى السابق زين العابدين بن على، وتابعنا أخبارها حتى قبل رحيلها بساعات عن تونس بصحبة زوجها وأسرتها خوفاً من غضب الجماهير عام 2011، وها هى تعود للأضواء مجدداً لتروى مذكراتها لإحدى دور النشر الفرنسية، والتى ترجمتها دار نهضة مصر للنشر فى مصر وتُطرح فى الأسواق خلال الأيام المقبلة تحت عنوان «حقيقتى.. ليلى بن على». لتحكى فيها ملامح من سيرتها الذاتية، وتحاول تبرئة نفسها وزوجها من كل ما وُجِّه لهما من اتهامات لاحقتهما بعد رحيلهما عن تونس، فلا تستخدم ذات التعبيرات التى نستخدمها فى توصيف ما حدث فى تونس، بل ترى أنها ووطنها تعرضا لمؤامرة قادها انقلاب عسكرى امتطى ثورة الياسمين لتحقيق أهداف دولية.
هى تعترف أن هناك أخطاء ارتُكبت من قبَل نظام حكم زوجها الذى سمح لبعض من أفراد عائلتيهما بالاستفادة المادية من وجوده، لكنها لا ترى أن تلك الأخطاء كانت تستحق كل ما حدث!
تدرك وأنت تقرأ سطور الكتاب أن قصص التاريخ واحدة فى ملامحها، وأن التفاصيل فقط هى التى تختلف، ولكن يغفل الكثيرون عن استيعاب دروس التاريخ فيكررون نفس الأخطاء متناسين لحظة إسدال الستار. ويا لها من لحظة تسقط فيها الأقنعة وتضيع فيها الهيبة وتتلاشى فيها قيمة الثروة فتُهان الكرامة. وتبقى كلمة النهاية للتاريخ الذى لا يستمع لمبررات من لا يعقلون دروسه..
نشوى الحوفى
حقيقتى..
تبدأ ليلى بن على مذكراتها بمقدمة تصر فيها على توضيح أسباب إقدامها على كتابة تلك المذكرات، مؤكدة أنها قررت أن تكتبها من أجل التاريخ الذى حكم عليها دون أن يسمعها على حسب وصفها، مكتفياً بنشر ما روّجه عنها أعداؤها هى وزوجها. مشيرة إلى أنها تُهدى تلك الشهادة للكثيرين، يأتى فى مقدمتهم شعب تونس الذى ظلمها، وأبناؤها وأحفادها حتى لا يخجلوا يوماً من الاسم الذى يحملونه، وأخيراً لزوجها بن على الذى لم تكفّ قط عن حبه، وهو ما تعبر عنه بالقول: «دعونى أبُحْ لكم ببعض ما فى نفسى وانطباعاتى عما يصلنى من أحاديث، فالبعض يخبرنى بأن الشعب يكرهنى، وهو ما أرفض تصديقه احتراماً منى لشعبى. ويقولون لى إن أصدقاء الأمس أصبحوا أعداء اليوم، فلا أملك سوى أن أسامحهم. ويقولون لى إن المستجدين القدامى لبسوا عباءة أبطال الثورة، وقد اخترت أن أشفق عليهم. لن أصدق هذه الادعاءات، ولن أعير اهتماماً للأكاذيب أو الإشاعات التى نُسجت حولنا منذ 14 يناير/كانون الثانى 2011 بغرض واحد هو تشويه سمعة عائلتى، وسمعتى بصفة خاصة. أما وسائل الإعلام فقد انغمست جميعها فى هذا الأمر بتلذذ. ودفعت بنا الدعاوى الزور التى أقيمت ضدنا إلى حصد إدانة الجماهير».
تلحظ عند متابعتك سطور الكتاب تلك الحالة الحزينة والمتواضعة التى تتكلم بها ليلى بن على وتسيطر عليها فى محاولة لسرد الحقائق من وجهة نظرها بالطبع. ولكنك لا تستطيع تجاهل ما ترويه من كواليس الأحداث فى تونس والتى تبدأها من يوم الرابع عشر من يناير عام 2011، اليوم الذى رحلت فيه هى وزوجها عن تونس التى لم تعد لها حتى اليوم رغم صدور حكم بالسجن ضدهما لمدة 35 عاماً بتهم الفساد وغرامة 91 مليون دينار تونسى، وهو ما يعادل 65 مليون دولار. ولذا تبدأ ليلى بن على فصول كتابها بفصل عنونته بـ«وقائع انقلاب مدبَّر»، مؤكدة أن بن على لم يكن ينتوى الهرب من تونس كما قيل وقتها، ولكنه أُجبر على تركها هو وأسرته من قبَل المحيطين به والمشاركين فى الانقلاب وعلى رأسهم على سرياطى، مدير الأمن الرئاسى، الذى لا تخفى ليلى اتهامها له بالإشراف الكامل على هذا الانقلاب. تبدأ سطور الفصل بالحديث عن صبيحة يوم الجمعة 14 يناير قائلة: «فى ذلك الصباح، استيقظت من النوم فى منزلنا بسيدى بوسعيد فى نحو الساعة الثامنة صباحاً. كانت الأنباء تصلنى منذ عدة أيام غير مُطمئنة. بعد أن اجتاحت البلاد موجة من الاحتجاجات اندلعت فى بعض مناطق الجنوب والوسط، ووصلت أصداؤها للعاصمة وانتشرت فيها. وانتاب عائلاتنا قلق بالغ، وبخاصة بعد أن شاهدتْ زوجة أخى السابقة منزلها يحترق فى اليوم السابق. ولجأت إلى منزلنا أختى جليلة هى وأسرتها عندما تم تحذيرها من وجود عصابات عازمة، على ما يبدو، على نهب ممتلكات آل طرابلسى وتهديد حياتهم. نفس الشىء حدث مع أخى بالحسن. لقد كنا نعرف بالتأكيد أننا نعيش لحظات حرجة، ولكننى لم أكن أتخيل أن الوضع سيتدهور وتصل الأمور إلى ما وصلت له، أو أننا سنضطر للرحيل بعد بضعة ساعات. لقد تفاجأت يومها برؤية أفراد عائلتى يتقاطرون إلى منزلى؛ أشقائى وشقيقاتى وأبناء أشقائى وأطفالهم، وزوجات أشقائى، وبعض أقارب بن على. بدا على الجميع اضطراب شديد، وكانوا يتحدثون عن خطر جسيم على وشك الوقوع. كان على سرياطى، مدير الأمن الرئاسى، قد أرسل إليهم سيارات الدفع الرباعى التابعة للرئاسة، دون علمى، حتى يجمعهم عندى فى سيدى بوسعيد، مما أذهلى؛ إذ إننى لم أطلب مثل هذا الطلب بأى صورة من الصور، ولم أبعث بمثل هذه الرسالة لعائلتى من خلال سرياطى».
لا تخفى ليلى بن على شكوكها فى سرياطى رئيس الأمن الرئاسى منذ السطور الأولى للكتاب، فتشير إلى أنه فاجأها ذلك اليوم بمطالبته أفراد عائلتها بسرعة مغادرة البلاد. مبرراً ذلك بالحرص على حياتهم من الأحداث التى اجتاحت تونس وعدم القدرة على التنبؤ بما ستسفر عنه التطورات، وكيف أنه تكفّل بحجز أماكن على متن الرحلات المتجهة إلى ليون بفرنسا وطرابلس فى ليبيا لأفراد العائلة وهو يطمئنهم بأنهم سرعان ما سيعودون لتونس بعد هدوء الاضطرابات.
تلمح فى تلك السطور ذلك الخوف الذى يصحب تلك اللحظات فى حياة من اعتادوا أن يأتمر الناس بأوامرهم، ولكنه خوف ممزوج بعدم التصديق بأن لحظة النهاية قد حانت، وأن ما يقومون به من إجراءات يعجّل بتلك النهاية التى لم يتوقعوها. تدرك هذا وأنت تقرأ كلمات ليلى بن على وهى تحكى كيف كانت تساعد أفراد عائلتها، الذين توافدوا على منزلها، على الرحيل، دون أن تدرك أنها ستضطر مثلهم للمغادرة بعد ساعات. وهو ما تقول عنه: «فى نحو الساعة الثالثة والنصف، تلقيت اتصالاً هاتفياً من قصر قرطاج؛ كان زوجى هو المتصل وعرض علىّ أن أسافر لأداء مناسك العمرة بصحبة ابنى محمد وابنتى حليمة، فسألته مندهشة: ولماذا هذا السفر المفاجئ إلى المملكة العربية السعودية؟ فأجابنى بن على: فترة وجيزة حتى تعود الأوضاع لطبيعتها. ستعودون خلال ثلاثة أو أربعة أيام. لا بد أنه على سرياطى هو من همس له بهذا الاقتراح، أنا واثقة من ذلك، إلا أننى لم أفهم سر الحتمية والعجلة؛ إذ كيف لى أن أصدق أن بضعة آلاف من المتظاهرين يمثلون خطراً يصل لحد اضطرارنا للرحيل؟».
ما زالت هى حتى تلك اللحظة فى روايتها فى مرحلة عدم التصديق لما يجرى حولها، فهى لا ترى فى المظاهرات المندلعة سوى هبّة بضعة آلاف من التونسيين الذين يمكن السيطرة عليهم أو تهدئتهم، معتمدة فى ذلك، كما تقول، على ثقتها فى زوجها الذى كان ملقّباً فى تونس بلقب «جنرال الأزمات». توقعت ليلى أنه سيجد الوسيلة التى يعيد بها الهدوء للبلاد، ولكن تلك الأزمة كانت أكبر من قدرات الجنرال بن على كما تبدَّى.
** سرياطى: «لابد للرئيس أن يرحل»
تحكى ليلى بن على كيف توجهت هى وابنتها حليمة وابنها محمد ذو الست سنوات وخطيب ابنتها فى الرابعة عصراً لقصر قرطاج، حيث يوجد زوجها لتوديعه قبل رحيلهم للمملكة العربية السعودية، مؤكدة أنهم لم يمتلكوا الوقت لتحضير حقائبهم، كما لم يظنوا أنهم بحاجة للكثير من الأمتعة لاقتناعهم بأنهم لن يغيبوا عن تونس سوى بضعة أيام. ولذا تنفى ما قيل عن اصطحابها أطناناً من الذهب والمجوهرات عند رحيلها عن تونس قائلة: «لم آخذ معى مجوهراتى أو ملابسى الفاخرة أو حتى ملابسى اليومية البسيطة، كما لم يكن بحوزتى مال ولا جواز سفر. لقد تحدثوا عن أطنان من الذهب وقالوا إننى استوليت عليها من البنك المركزى التونسى ورحلت بها، وهو ما نفته إدارة البنك فى حينها، ورغم ذلك سرعان ما حاكوا شائعات كثيرة غيرها، مثلما ادّعوا العثور على مبالغ مالية طائلة فى قصر بوسعيد بعد رحيلنا عنه. وهو أمر طبيعى أن يكون لدينا أموال سائلة كما هو الحال دائماً فى الخزائن الخاصة برؤساء الدول، ولكنها مبالغ لا يمكن أن تصل 41 مليون دينار تونسى كما قيل وقتها».
تواصل ليلى بن على حكى رؤيتها لتلك الساعات التى سبقت رحيلهم مؤكدة أن زوجها لم يكن ينوى حتى تلك اللحظة مغادرة تونس، هم فقط من كانوا سيرحلون. وتروى أن أول ما لاحظته عند وصولها لبوابات قصر قرطاج، هو عدم وجود أى حراسة أمام السكن الرسمى لرئيس الدولة، وهو عكس المتوقع فى تلك الظروف التى تجتاح البلاد فيها اضطرابات عنيفة. فتقول: «لم يكن هناك حتى ظل خفير واحد، كانت الأبواب مفتوحة على مصراعيها. ولم يكن هناك سيارات حراسة ولا سعاة للخدمات. فقط دبابتان مصفوفتان بجوار الرصيف. كان ثمة انطباع بالغرابة وبوادر كارثة فى سبيلها للوقوع، تنبعثان من المكان، تماماً كوقت الحرب، فانقبض قلبى وسيطرت على نفسى هواجس بقرب حدوث مأساة. رأيت بعض أفراد الحرس الشخصى وسائقين، اقترب أحدهم منى قائلاً فى توسل: «أرجوكِ يا سيدتى، أخرجيه من هنا! يجب أن يرحل الرئيس!». نظرت له ساهمة دون أن أفهم معنى توسله، ولكننى واصلت تقدمى باتجاه المكتب الرئاسى، حيث كان زوجى محاطاً بمدير التشريفات الرئاسية محسن رحيّم، ومدير الديوان الرئاسى عياض الودرنى، وصهره مروان مبروك -زوج إحدى بناته من زواجه الأول- الذى لم يمكث طويلاً. كان على سرياطى، مدير الأمن الرئاسى، يتحرك مضطرباً فى جميع الاتجاهات، مشيراً إلى مخاطر جسيمة».
لا تكفّ ليلى بن على عن الإشارة للدور الذى لعبه سرياطى فى إجبار زوجها على الرحيل بكافة الطرق، كما لا تكفّ عن تسجيل ملاحظتها لما كان يفعله فى تلك اللحظات مسلطة الضوء على الدور الذى لعبه الرجل -على حد وصفها- فى ما سمته الانقلاب، فبعد أن كان مجيئها لقصر قرطاج مع ابنتها وخطيبها وطفلها الصغير سببه توديع زوجها قبل الرحيل، فوجئت بسرياطى يقنع زوجها بن على بمرافقتهم للمطار لتوديعهم هناك كعادته، وهو ما تردد فيه بن على لبضع دقائق قبل أن يعلن موافقته عليه فى النهاية. وهو ما تقول عنه: «طلب الرئيس أن يذهب أحدهم لإحضار جوازات السفر الخاصة بنا من المنزل. حينئذ صاح سرياطى قائلاً: «أى منزل؟ وأية جوازات؟ ليس أمامنا وقت، يتعين الرحيل فوراً!». وفجأة احتدم كل شىء، وبدا الفزع واضحاً على البعض، ولم يعد للمنطق مكان. ومع ذلك، رفض زوجى أن يترك مكتبه، وقال لسرياطى: «اصطحبهم أنت سأظل أنا هنا». فبدا سرياطى وكأنه لم يسمعه وأصر على رأيه. وكانت حجته أن القصر يمكن أن يتعرض للتفجير فى أية لحظة، من قبَل المروحيات التى قال إنها تحوم حوله، بالإضافة لخفر السواحل الذين قد يهاجمونه من البحر. لم أكن أرى، شخصياً، أية مروحيات، ولم أفهم مغزى هذه العبارات التى اعتبرتها هذياناً من سرياطى».
تحكى ليلى بن على عن توتر الأجواء ورفض زوجها اقتراحات سرياطى وصمتها أثناء متابعة الموقف الذى لم ينته إلا بإعلان حليمة ابنتها نيتها عدم الذهاب للمطار فى حال عدم ذهاب بن على معهم لتوديعهم هناك، وهو التهديد الذى أذعن له بن على واضطره لمرافقة أسرته حتى المطار لإنهاء إجراءات مغادرتهم ثم العودة لقصر قرطاج لمتابعة الموقف. تخبرنا ليلى بن على فى مذكراتها كيف أنها تفاجأت هى وزوجها بتغيير وجهة سيرهم بعد مغادرتهم قصر قرطاج، فبدلاً من أن يتجهوا لمطار قرطاج الدولى، حيث اعتادوا المغادرة، اتجه بهم سرياطى إلى مطار العوينة المخصص للطيران العسكرى! وتزداد دهشتهم عند وصولهم بالحرس العسكرى يرفض فتح البوابة لهم، وهو ما اضطر سرياطى لترك سيارته وإصدار الأوامر للحرس بفتح البوابة، حيث توجهت سيارة بن على وسرياطى إلى مرآب الطائرة الرئاسية التى كان يتم إعدادها لهم. وتروى ليلى بن على فى كتابها «حقيقتى» أن المرآب كان يمتلئ بعشرات العسكريين المنتمين لوحدات مجابهة الإرهاب بالإضافة لأفراد من الحرس الوطنى، وموظفين من الأمن بالزى المدنى، وعسكريين، مشيرة إلى أن ما كان يفصلهم عن هؤلاء أفراد حرسهم الشخصى الذين كانوا يشكلون حاجزاً يحول بينهم وبين الآخرين. وحتى تلك اللحظة كان زين العابدين بن على ينتظر وداع أسرته كما اتفق مع رئيس أمنه الرئاسى، ولكن تغير المخطط عند إعلان سرياطى فجأة الاستيلاء على برج المراقبة فى المطار.. وهو ما تحكى عنه ليلى بن على قائلة: «ذهبت بسرعة لقائد الطائرة الرئاسية التى كانت ستقلنا، وسألته عما يحدث بالضبط، وما إذا كان تصريح سرياطى يعنى استحالة مغادرة البلاد، فسارع قائد الطائرة بإجراء اتصال هاتفى ثم عاد ليجيبنى قائلاً: «لا تقلقى يا سيدتى، لم يستول أحد على برج المراقبة، سنغادر»! لا أعلم هل كان سرياطى يروى أكاذيب أم أنه كان ضحية لمعلومات مغلوطة، ثم أفقت من تساؤلاتى على صوت سرياطى مجدداً وهو يقترح على زوجى الرحيل معنا، قائلاً: سيدى الرئيس، لا نعرف ما الذى يمكن أن يحدث، من الأفضل أن تصطحب عائلتك شخصياً إلى المملكة العربية السعودية، لن تخسر شيئاً بسفرك معهم، وغداً بعدما تهدأ الأمور وتعود إلى طبيعتها يمكنك العودة».
تحكى ليلى بن على عن مظاهر الذهول التى أصابت زوجها وهو يستمع لاقتراح سرياطى بالمغادرة معهم، سارداً عليه صوراً كارثية لما يمكن أن يحدث لو أصر على البقاء فى تونس وعدم الرحيل، إلى حد قوله بوجود مخاوف من احتمال قيام أحد أفراد الحرس الشخصى لبن على باغتياله، وهو ما دفع بن على لقبول الفكرة. هنا لا بد أن تتوقف قليلاً أمام رواية ليلى بن على التى تدحض ما تردد وقتها عن أن الرئيس التونسى السابق غادر تونس على متن طائرته من دون أن يحدد وجهته، وكيف أنه ظل معلقاً فى السماء وهو يتلقى رفض رؤساء الدول استقباله وفى مقدمتهم الرئيس الفرنسى بيرلسكونى الذى قيل إنه رفض استقبالهم فى فرنسا، والمصرى السابق مبارك الذى قيل إنه رفض توقف الطائرة للتزود بالمؤن فى مصر، وكيف أنه ظل لمدة ست ساعات يبحث عن مجير له ولأسرته حتى أعلنت المملكة السعودية قبولها استضافتهم، فرواية ليلى بن على تؤكد أن اختيار السعودية كان محدداً من البداية وأنهم توجهوا لها مباشرة دون أن يطلبوا من أحد استضافتهم، ولكننا لا نستطيع أن نجزم أى الروايتين أصح؛ رواية ليلى التى تريد أن تؤكد أنهم لم يطلبوا المساعدة وتخلى عنهم الآخرون؟ أم رواية فرنسا ومصر التى ربما سيقت وقتها لمنع بن على من طلب المساعدة وإحراجهما؟
نعود لرواية ليلى لتلك الأحداث فتجد أنها سرعان ما كشفت عن اتهامها لسرياطى بالكذب عند التحقيق معه فيما بعد، وكيف ذكر فى التحقيقات أنه لم يكن له أى دور حقيقى فى رحيل بن على، مؤكداً على فكرة هروب بن على. ولكن تتجاوز ليلى تلك النقطة فى مذكراتها لتنتقل بالحديث عن تلك الاتصالات التى كان يقوم بها زوجها وهو على متن الطائرة الرئاسية لمتابعة الموقف فى تونس، والتى بدأت بمكالمته لرئيس وزرائه محمد غنوشى منيباً إياه فى حكم تونس لحين عودته من السعودية فى اليوم التالى، وكيف علم من غنوشى بوجوده فى قصر قرطاج بصحبة عدد من الوزراء والمسئولين الذين تم استدعاؤهم للقصر بالقوة، ثم تحكى كيف حاول بن على الاتصال بسرياطى بعدها لكن بلا جدوى.. إذ لم يعد مدير الأمن الرئاسى يرد على هاتفه. وهو ما تقول عنه: «اتصل زوجى بفؤاد مبزع، رئيس مجلس النواب حينذاك، فكرر له كلام غنوشى حول مجىء رجال ملثمين إلى منزله واقتياده إلى قصر قرطاج دون أى تفسير، فاتضحت الصورة فى ذهنى وقتها، وبدا مؤكداً أن الذين أجبروا كبار الشخصيات فى الدولة على الانتقال إلى قصر قرطاج هم أنفسهم من دبروا مسألة رحيلنا على الطائرة لإبعادنا عن البلاد ومعهم أوامر بعدم عودة بن على، ثم تنبهت على اتصال زوجى برضا قريرة وزير الدفاع الذى قال له: «إنها كارثة، لقد وقعت هذا المساء مذبحة، نتج عنها عدد كبير جداً من المتوفيين، امكثوا فى المملكة العربية السعودية ليومين أو ثلاثة ولا تعودوا قبل أن يتم الاتصال بكم». أغلق بن على الهاتف واتصل بكامل لطيف صديقه القديم، الذى فضح نفسه وكشف عن نيته خلال حديثه الهاتفى مع زوجى، إذ اكتفى بقول عبارة تونسية: لقد تقاسمنا الماء والملح وبموجب الصداقة التى بيننا أنصحك بعدم العودة!».
لا تنسى ليلى بن على أن تصف طريقة استقبالهم فى السعودية لدى هبوط طائرتهم هناك، مؤكدة حرص العائلة المالكة على إظهار مظاهر التقدير لهم عبر مرورهم بالقاعة الشرفية ومرافقة موكب الحرس والسيارات الرسمية، ثم تروى كيف غادرت الطائرة الرئاسية التونسية السعودية بعد ساعة ونصف الساعة عائدة لتونس ليصبح بن على مُبعداً عن تونس، ويحل رئيس مجلس النواب، فؤاد مبزع، مكانه فى رئاسة الدولة.
وهكذا روت ليلى بن على أحداث ذلك اليوم الذى كان بمثابة مقدمة لجميع الثورات العربية التى أطاحت برؤساء آخرين غير زوجها، واضعة أمامنا جزءاً آخر من الصورة لا ينفى أنه كانت هناك ثورة خرجت من أجلها الجماهير تطالب بالحرية والعدالة والكرامة والمساوة والقضاء على الفساد، كما لا ينفى أن هناك مؤامرة استغلت تلك الثورة وركبت موجتها داخلياً وخارجياً. ولعلها صورة مكررة فى البلدان الأخرى التى تعرضت لذات الأحداث. تؤكد أنه قد قامت قيامة العرب برعاية حكام نسوا الله فأنساهم أنفسهم وأجهزة مخابرات دولية ستكشف عنها الأيام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اضف تعليقك.. واترك بصمتك