إن الشباب السلفي في تونس ليس مغرّرا به بقدر ما تقيّأ مفهوم "الاعتدال"، لغة واصطلاحا. نعود إلى سنوات بن علي، حيث كانت المنابر حكرا على بعض المتخرجين من كلية الشريعة الهزيلة في مناهجها ومقرراتها، أو أصناف المنحدرين من سلك التعليم (الابتدائي أو الثانوي) كوفئوا آخر مسيرتهم المهنية أو خلالها باعتلاء المنابر في المساجد شريطة الالتزام بتوجيهات سلطة الاشراف، أعني وزارة الشؤون الدينية. ولمّا كان تحصيلهم العلمي الديني ضعيفا، استقوا خطبهم من بعض المجلات، واقتبسوا أحيانا أخرى من بعض أمهات التفاسير. لكن هذه الخطب الجوفاء، فقيرة الروح، التي أخفقت في تحصيل صورة العلم فضلا أن توفق في الاهتداء إلى حقيقته، لم تخلّف إلا احتقانا متزايدا لدى مرتادي المساجد. وإن ناسبت هذه الخطب بعضهم، فلعلّهم المحالين على المعاش، الذين اقتصرت طموحاتهم، بعد أن انقضى من العمر أكثر مما يُستقبل، على تعطير آذانهم بكلام يبعث في النفس بعض طمأنينة، ويمنّيها بأن العباءة المظلمة المتوشح بها داعي الموت، تنطوي على إشراقات أخروية وملامح سعادة أزلية. أما أهل الحياة، الشبابَ المتعطشَ إلى خطاب ديني، فإن الخطب المكرّرة حرفيّا حتى انكمشت الأوراق الذي خطّت عليها واصفرّت، أبعد ما يكون عن الاجابة عن تساؤلاتهم أو شفاء غليلهم
وهؤلاء الشباب على صنفين
منهم المثقفون الذين راودتهم فكرة التدين، لكنهم انصرفوا عنها لكون الخطاب غير ملائم ولا يقدم طرحا يتماشى والأسئلة التي تخاطرهم. هذا الشباب المتفتح الذي يصادف في الكلية أو من خلال اطلاعه على الاعلام الأجنبي، تشكيكا في دينه من زوايا متعددة: عمر عائشة عند زواجها، "واضربوهن"، "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية. هذا الصنف من الشباب المثقف، إن لم ينفر من الدين برمّته ويهجره، تتحول عنده خطبة الجمعة، إلى طقس من الطقوس، يرتوي خلالها روحانيا، لا من كلام الامام، وإنما من رائحة البخور التي تضيع شذا وقرنفلا داخل المسجد، أو من ترتيل قرآن يتهادى إلى سمعه من شريط كاسيت بال وهو في انتظار اعتلاء الامام المنبر، أو من بعض اللّحى المطلقة والكلمات المنمّقة، ثم يمضي إلى حال سبيله…وهو كما دخل خرج
أما الشباب غير المثقف، وهو الشباب الحماسي "العاطفي"، فإنه في وضع لا يقل حرجا: فهذا الصنف لا يطالع الصحف المحلية فضلا عن الأجنبية، ولا يذهب إلى الكلية حتى يصادف فيها نماذج تشكك في دينه…لكنه يرى ويسمع ما يُفعل بإخوانه في بيت المقدس، وفي الشيشان، وفي بورما، وفي غوانتانامو…فيحترق قلبه لوعة عليهم. ثم هاهي آفاق الحياة الرحبة تلعنه لتحضن غيره..لكن بصيص الأمل هاهنا، على بعض القنوات الفضائية، التي تعرض عليه "نماذج" تستهويه من شيوخ ودعاة، يخاطبونه بكلمة تخنقها العبرة، تحذيرا وتبشيرا. تتحقق في هؤلاء ملامح التدين، وينطوي خطابهم المغلق على منطق قوي، فيخاطبون المشاعر الدفينة والأفكار الراكدة. وبين التجنيد السلفي "النظري" أو "العلمي"، إلى براثن الجهاد المسلّح كما يفهمونه، ليست هناك إلا خطوة معلومة سبلها وكنهها وزمن تخطيها. هؤلاء نفروا من الاعتدال الذي يتكلم عن الحب والسلام بعبارات جوفاء، من بعض أئمة تلفظوا بها وخفي عليهم موضع الشاهد فيها، ومن أئمة آخرين وقفوا عاجزين عن مقارعة الحجة بالحجة، وأن يدرؤوا فهما لكلام الله بفهم آخر لكلام الله. فنفرت هذه الطائفة من الاعتدال ومن كل ما يمثله، حتى من اللكنة التونسية التي كثيرا ما تلفّظت بها "النماذج غير الحقيقية"، "النماذج المائعة". لقد طوّر هؤلاء في قرارة أنفسهم، ربما دون أن يدروا، "ظاهرة رفض نفسية" ضد كل ما يذكرهم بفترة الميوعة الفكرية التي يرونها ضربا من ضروب الضلالة والجاهلية
إن هذا الصنف من الشباب هو أكثر الناس عرضة للتجنيد السلفي. أولا لانحداره من أوساط جدّ متواضعة، وأيضا لأنه كان أكثر عرضة للتهميش وللقمع (على مستوى الأسرة والمجتمع المدني والسياسي) من غيره. فتختلط لديه الرغبة الصادقة في خدمة دينه وأمته، بطموحه الأناني المشروع بالارتقاء في السلّم الاجتماعي. ولما كان الارتقاء منوطا باكتساب أداة مشروعة أو غير مشروعة ليست في متناوله، فإن الدين هو السلم الذي يرتقيه
إن ما يحكى عن السلفية عندنا لا يعكس إلا واقعا بائسا لشباب يتخبط في شبح هوية هو في طلبها. ومن ثم، يتمثل له الاعتدال في نسخة مميعة من الدين والتطرف في نسخة أصلية منه. هؤلاء أبناؤنا، هم ضحايا غياب الأصالة، التي تغريهم بالأصولية
مندر الجريدى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اضف تعليقك.. واترك بصمتك