مازال الغموض يكتنف ما جرى يوم 14 جانفي 2011 بمطار العوينة بالعاصمة عشية هروب الرئيس المخلوع خاصة أن الروايات تعددت على لسان بعض رجال الأمن أو المخابرات حول الظروف التي تم فيها إيقاف عدد من «الطرابلسية» عندما كانوا بالمطار يحاولون الحصول على وسيلة للهروب خارج حدود البلاد.
«التونسية» عادت إلى الموضوع بعدما حصلت على معلومات من مصادر رسمية في الجيش الوطني ومن شهادات ثابتة موثقة بالصور لتكشف حقيقة ما جرى ساعة بساعة.
وعلى هذا الأساس ننشر اليوم خفايا ما حدث في ما يمكن اعتباره الرواية الرسمية لخفايا ما وقع في كواليس مطار العوينة وأدى إلى إيقاف عدد من «الطرابلسية».
فقد تضمّن تقرير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات التي يرأسها الأستاذ توفيق بودربالة إشارات (الصفحات 261-262-265-267-268-269-270-271) للعقيد إلياس بن عبد الرحمان المنكّبي بصفته مساعد آمر القاعدة الجوية بالعوينة التي منها غادرت الطائرة الرئاسية وعلى متنها زين العابدين بن علي في سفرة ذهاب بلا إياب بصفته رئيسا للدولة عشية يوم 14 جانفي 2011.
وقد يكون العقيد المنكّبي آخر من شاهد الرئيس الأسبق في الدقائق الأخيرة لحكمه الطويل، واعتمادا على ما ورد في تقرير لجنة توفيق بودربالة واستنادا إلى مصادر مطلعة، نعيد تقديم بعض وقائع يوم 14 جانفي 2011 التي مازالت غير مكتملة عند عامة التونسيين وبعض خاصتهم.
في حدود السابعة والنصف من مساء يوم 14 جانفي 2011 تلقى العقيد إلياس المنكبي اتصالا هاتفيا من المدير العام للأمن العسكري أحمد شابير يطلب منه التحول إلى مطار تونس قرطاج الدولي لتسلم مجموعة من المدنيين من الفريق الأمني الذي يحتجزهم بقيادة المقدم سمير الطرهوني الذي صرح لاحقا بأنه تحرك بدافع «الوطنية والقيم النبيلة» وبلا تعليمات من أي كان أو حماية على الأقل من طرف مؤثّر في تلك الظروف الاستثنائية التي مرت بها تونس.
كان العقيد المنكّبي خالي الذهن عن هوية الموقوفين، وبوصوله إلى المطار أدرك أن «الطرابلسية» هم الرهائن، فعاد بـ«الأمانة» إلى ثكنة العوينة التي لم يغادرها إلى بيته طيلة أكثر من عشرين يوما.
حال وصول الحافلة إلى القاعدة، تلقى العقيد إلياس المنكّبي اتصالا من رئيس أركان جيش الطيران أمير اللواء الطيب العجيمي الذي أبلغه الأمر- بتعليمات من وزير الدفاع حسب تقرير لجنة بودربالة- بتسليم الموقوفين جوازات سفرهم وبأن يؤمّن سفرهم نحو إيطاليا.
ويذكر تقرير لجنة بودربالة أنه تم جلب طائرة من نوع هركيل C130 من القاعدة الجوية سيدي أحمد ببنزرت لتأمين سفر «الطرابلسية». ما لم يذكره التقرير وورد في محاضر المحكمة العسكرية الدائمة بباب سعدون أن هذا الاتصال الهاتفي الذي تلقاه العقيد المنكّبي كان بحضور العقداء محيي الدين المتهني ومنصف بالرحومة آمر القاعدة الجوية بالعوينة والمقدم محمد الحجام والرائد حمودة بسيّس. العقيد المنكّبي رفض تطبيق التعليمات وقال لمخاطبه بأن الشعب التونسي لن يسامحنا إن أطلقنا سراح «الطرابلسية» وتركناهم يغادرون البلاد.
بعد دقائق اتصل مدير عام الأمن العسكري أحمد شابير(عين لاحقا مديرا عاما للأمن الوطني حين كان فرحات الراجحي وزيرا للداخلية، ثم أحيل على التقاعد) بعد أن أبلغه الجنرال العجيمي بعدم استجابة المنكبي ومجموعته للتعليمات وسأله لماذا رفضت تطبيق الأوامر، فلم يتزحزح موقف العقيد إلياس المنكّبي وحاول أن يلفت انتباه رؤسائه إلى أن الحكومة تم حلّها ولم تعد لوزير الدفاع شرعية إصدار التعليمات، فردّ عليه أمير اللواء شابير بأن عليه أن ينتظر قليلا حتى يعيد الاتصال به. بعد دقائق رن الهاتف الجوال للعقيد إلياس المنكّبي وكان أمير اللواء شابير على الخط من الطرف الآخر ليعلمه باقتناعه بالموقف المتّخذ.
انتهت المكالمة عند هذا الحد، بعدها أعاد الجنرال العجيمي الاتصال ليطلب من العقيد المنكّبي- بأمر من وزير الدفاع مرّة أخرى- أن يمنح الطرابلسية الموقوفين فرصة ليتدبروا أمرهم مادام قد رفض تمكينهم من امتطاء الطائرة العسكرية.
كان واضحا أن القيادة العسكرية كانت تحت ضغط غير عادي وقد أكدت المكالمات الهاتفية المسجلة في الطائرة الرئاسية أن المخلوع وزوجته اتصلا أكثر من مرة بوزير الدفاع رضا قريرة لفكّ حجز «الطرابلسية» وتمكينهم من السفر خارج تونس.
استجابة مساعد آمر القاعدة الجوية بالعوينة للتعليمات فاتجه نحو القاعة الشرفية ليأخذ معه إلى مكتبه منصف الطرابلسي وعماد الطرابلسي ومكن هذا الأخير من هاتفه الجوال، هنا سكت تقرير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق عن إيراد التفاصيل، فبمن اتصل عماد الطرابلسي بحثا عن فرصة الفرار من ثكنة العوينة؟
مصادر «التونسية» تؤكد بأن أول اتصال كان بأحد أبناء العقيد القذافي بلا جدوى، ثم اتصال ثان برجل الأعمال التونسي عزيز ميلاد (صاحب شركة طيران)، المفاجأة كانت في الاتصال الثالث بصقلية الإيطالية إذ جاءت الموافقة بإرسال طائرة في الحين باتجاه مطار تونس قرطاج (تم تسريب فيديو على اليوتيوب يتضمن حديثا لعماد الطرابلسي بالإيطالية في رحلة بحثه عن الخلاص) وأمام تطور الموقف بهذه الصورة غير المنتظرة، سحب العقيد المنكّبي الهاتف الجوال من عماد الطرابلسي ونقل رقم الهاتف الإيطالي وأفاد به أمير اللواء شابير المدير العام للأمن العسكري وأعاد عماد إلى القاعة الشرفية حيث يقبع الجماعة.
ظل عماد الطرابلسي يسأل عن الجديد وهل حلت الطائرة التي ستنقله خارج تونس والعقيد المنكّبي يماطله حتى طلوع الفجر.
وفي الوقت الذي أذاعت فيه قناة «الجزيرة» القطرية عن طريق أحد مراسليها بتونس نبأ وفاة عماد الطرابلسي، بادر هذا الأخير بتقديم عرض سخي إلى العقيد المنكّبي مقابل تمكينه من مغادرة القاعدة، تجاهل العقيد المنكّبي العرض «الطرابلسي» ولم يُعِرْه اهتماما.
فجر يوم السبت 15 جانفي 2011 قام العقيد المنكّي ورفاقه في القاعدة الجوية بتشكيل لجنة لجرد المحجوز الذي قدر لاحقا بمليار ونصف من العملة الصعبة وكمية كبيرة من المجوهرات تعادل قيمتها 7مليارات بعضها يعود إلى العائلة الحسينية (البايات).
كيف تم عزل علي السرياطي؟
ورد في تقرير اللجنة أن رئيس أركان جيش الطيران الجنرال العجيمي هو الذي اتصل بالعقيد المنكبي وطلب منه عزل السرياطي بسحب سلاحه وهاتفه الجوال وأن يقوم بإيقافه « تنحّيلو سلاحو وتوقفو» إلى حين قدوم الكومندوس التابع للجيش الوطني.
انتهت التعليمات هنا، ولكن تطبيقها كان على غاية من الخطورة فعلي السرياطي لم يكن بمفرده في ثكنة العوينة بل كان مرفوقا بـ35 عنصرا من الأمن الرئاسي، ولا ننسى أن عناصر الجيش تم تسليحها منذ يوم 9 جانفي 2011، عنصر آخر هو على غاية من الأهمية أنه عند حلول الركب الرئاسي حلت بقاعدة العوينة طائرتا هيليكوبتر من قاعدة الرمادية ببنزرت وعلى متنها خمسون من القوات الخاصة وهي من أفضل وحدات الجيش الوطني.
كان على العقيد إلياس المنكّبي ومجموعة الضباط الشرفاء من جيش الطيران بقاعدة العزينة أن يتجنبوا حدوث أي مواجهة بين قوات الجيش وقوات الأمن الرئاسي فتحدث العقيد إلياس المنكّبي إلى صديقه المقدّم إلياس زلاق مدير إدارة المرافقة في الأمن الرئاسي (يعمل حاليا بسلك الحرس الوطني) وطلب منه أن يعود إلى قصر قرطاج . استغرب الرجل الطلب وسأل «علاش؟ آش ثمّة؟» فأجابه «غدوة نقلك» كما أوردت مجلة «ميديابارت» الفرنسية.
إتجه العقيد المنكّبي نحو السرياطي وخاطبه كما تقتضي الأعراف العسكرية طالبا منه سلاحه وهاتفه الجوال، امتثل السرياطي للأمر ولكنه طلب تمكينه من إجراء مكالمة هاتفية أخيرة (طلب ذلك ليتمكن من مغالطة العقيد المنكّبي ويصرف النظر عن امتلاكه لجوّال ثان) فأجابه العقيد المنكبي بأن ذلك غير ممكن، تبين لاحقا أن السرياطي كان يحتفظ بجهاز هاتف جوال ثان وهو الذي استخدمه للاتصال بسامي سيك سالم ليطلب منه استدعاء فؤاد المبزع وعبد الله القلال ومحمد الغنوشي وفتحي عبد الناظر لقصر قرطاج لسد الشغور الرئاسي، كان العقيد المنكبي حينها في مطار تونس قرطاج لتسلم الطرد (الطرابلسية الذين أوقفهم المقدم سمير الطرهوني) وكان العقيد المنصف بالرحومة مكلّفا بحراسة علي السرياطي.
بعد ذلك قام العميد فوزي العلوي(مدير السجون حاليا) بنقل السرياطي إلى مقر الأمن العسكري(دار الباهي الأدغم) وتقول مصادرنا بأنه عرض (مبني للمجهول) على السرياطي أن يغادر تونس ولكنه رفض فلا شيء في نظره كان يدعوه إلى الهرب، ويفيد محضر بحث المحكمة العسكرية أواخر فيفري 2012 بأن السرياطي تلقى على هاتفه الجوال إرسالية قصيرة من سليم شيبوب بتاريخ 13 جانفي يطلب منه تبليغ الرئيس بأن عليه أن يأخذ قرارات مصيرية لترضية الشعب التونسي، كما تلقى إرسالية صباح الجمعة 14 جانفي 2011 من محمد الغرياني أمين عام التجمع (الحزب الحاكم طيلة 23 سنة) تفيد بمهاجمة مجموعات من المحتجين لقصر قرطاج كما تلقى اتصالات من بنات الرئيس المخلوع (قبل أن يخلع) وبعض أصهاره.
هل خدع السرياطي؟
انتهى تقرير لجنة توفيق بودربالة إلى أنه لم يثبت أن بن علي كان ينوي السفر فقد غادر مكتبه بسرعة وترك نظاراته الطبية وحاسوبه الشخصي الذي لم يعثر عليه إلى حد الآن(؟؟؟ ) وكان ينوي مرافقة العائلة إلى المطار، لكن السرياطي أقنعه بالسفر تفاديا لإراقة الدماء كما جاء في إفادته أمام لجنة تقصي الحقائق «بعد أن كانت المؤشرات تدل على وجود نية الهجوم على القصر الرئاسي زيادة عن وجود معلومة إستخبارتية أجنبية تفيد بوجود ضابط من الأمن الرئاسي بصدد التخطيط لقتل رئيس الجمهورية».
مصادر «التونسية» تؤكد أن السرياطي تلقى معلومة من طرف أحد مساعديه بوجود خطر قادم من ناحية البحر وهو ما دفعه إلى الاتصال بوزير الدفاع (رضا قريرة) ليطلب منه الإذن بخروج طائرة عمودية استطلاعية لتفقد الأحوال وهو ما تم، إذ حلقت الطائرة العمودية من ثكنة العوينة وعلى متنها العقيد بالأمن العسكري محمد مشماش مرفوقا بملازم أول من الحرس الوطني وقامت الطائرة بطلعتين، طلعة أولى في حدود الحادية عشرة ونصف صباحا لمدة ساعة ونصف وطلعة ثانية في حدود الواحدة والنصف بعد الزوال، فمن يكون مساعد السرياطي الذي أسر له بهذه المعلومة وماذا كان هدفه؟ وأين اختفى المساعد الأول للسرياطي وهو الذي تمت نقلته إلى مرصد المرور في ما بعد؟ وهل صحيح ما تردد من كون هذا الأخير اختار منذ بداية أحداث الثورة الانحياز إلى قيادة الجيش الوطني والتخلي عن ولائه لرئيسه المباشر في الأمن الرئاسي علي السرياطي؟ وهل هذا ما قصده محمد الغنوشي بقوله إبان تسلمه الحكم ليوم واحد»لقد أنقذنا البلاد من حمّام دم»؟ أي أنه جنّب البلاد حربا داخل القصر الرئاسي بين الذين بقوا على ولائهم للسرياطي وفي مقدمتهم سامي سيك سالم والذين اختاروا أن يقفوا إلى جانب عدنان حطاب الذي نأى بنفسه عن رئيسه.
بقي أن نسأل لماذا أفاد وزير الدفاع رضا قريرة في شهادته أمام اللجنة بأنه رد على بن علي حين سأله عن قصة الطائرة العمودية بأن المعلومة غير صحيحة (وهو ذات الموقف الذي صرّح به لراديو موزاييك لاحقا)؟ ومن نصحه بذلك؟
أين اختفت طائرة بلحسن الطرابلسي؟
في صباح يوم 15 جانفي2011 وفي حدود الساعة الرابعة فجرا، وردت معلومة على العقيد إلياس المنكبي مساعد آمر قاعدة العوينة بأن طائرة بلحسن الطرابلسي قد حطت بمطار تونس قرطاج لنقل المنصف الماطري وزوجته(والدا صخر الماطري) خارج تونس، وعلى الفور تنقل العقيد المنكبي رفقة المقدم شكري شبشوب على عين المكان، وفي المطار وجدا إلياس كرفاحي (مدير مطار تونس قرطاج) ومحمد الشريف (رئيس مدير عام ديوان الطيران المدني والمطارات) ومدير مكتب الديوانة بالمطار ومدير أمن المطار زهير البياتي، فقاما بإيقاف الطائرة التي كان على متنها طاقم فرنسي .
الغريب أنه بعد أيام قليلة سمح للزوج الماطري بالمغادرة سالمين آمنين، وبعد نقلة العقيد المنكبي من العوينة إلى برج العامري، غادرت طائرة بلحسن الطرابلسي مطار تونس قرطاج في ظروف غير معلومة، ويتردد أنه تم بيعها وقد تكون عادت إلى تونس برقم جديد Matricule.
وفي الساعة السادسة والنصف من صباح السبت 15 جانفي 2011 حطت الطائرة الرئاسية بمطار تونس قرطاج عائدة من العربية السعودية ودون أن ينتظر أي تعليمات من فوق، بادر العقيد المنكّبي بتشميع الطائرة وكل التجهيزات الموجودة بمستودع العوينة المربض الدائم للطائرة الرئاسية وتأمين المكالمات الهاتفية الصادرة منها والواردة عليها.
لعب العقيد إلياس المنكبي دورا هاما في أحداث يوم 14 جانفي 2011 إذ تحمل مسؤولية رفض قرارات كانت ستسمح للطرابلسية بالسفر وفضّل أن يتخذ موقفا يفتخر به ويعتبر مثالا من جملة الأمثلة المشرّفة لجيشنا الوطني خلال ثورة 14 جانفي.
هذا وتنفرد «التونسية» بنشر مجموعة من الصور التي التقطت في قاعدة العوينة يوم 14 جانفي 2011 ويظهر في عدد منها الطائرة الرئاسية قبل الفرار الأخير وصورا للطرابلسية وهم قيد الإيقاف تنشر لأول مرة.
وعلى هذا الأساس ننشر اليوم خفايا ما حدث في ما يمكن اعتباره الرواية الرسمية لخفايا ما وقع في كواليس مطار العوينة وأدى إلى إيقاف عدد من «الطرابلسية».
فقد تضمّن تقرير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات التي يرأسها الأستاذ توفيق بودربالة إشارات (الصفحات 261-262-265-267-268-269-270-271) للعقيد إلياس بن عبد الرحمان المنكّبي بصفته مساعد آمر القاعدة الجوية بالعوينة التي منها غادرت الطائرة الرئاسية وعلى متنها زين العابدين بن علي في سفرة ذهاب بلا إياب بصفته رئيسا للدولة عشية يوم 14 جانفي 2011.
وقد يكون العقيد المنكّبي آخر من شاهد الرئيس الأسبق في الدقائق الأخيرة لحكمه الطويل، واعتمادا على ما ورد في تقرير لجنة توفيق بودربالة واستنادا إلى مصادر مطلعة، نعيد تقديم بعض وقائع يوم 14 جانفي 2011 التي مازالت غير مكتملة عند عامة التونسيين وبعض خاصتهم.
في حدود السابعة والنصف من مساء يوم 14 جانفي 2011 تلقى العقيد إلياس المنكبي اتصالا هاتفيا من المدير العام للأمن العسكري أحمد شابير يطلب منه التحول إلى مطار تونس قرطاج الدولي لتسلم مجموعة من المدنيين من الفريق الأمني الذي يحتجزهم بقيادة المقدم سمير الطرهوني الذي صرح لاحقا بأنه تحرك بدافع «الوطنية والقيم النبيلة» وبلا تعليمات من أي كان أو حماية على الأقل من طرف مؤثّر في تلك الظروف الاستثنائية التي مرت بها تونس.
كان العقيد المنكّبي خالي الذهن عن هوية الموقوفين، وبوصوله إلى المطار أدرك أن «الطرابلسية» هم الرهائن، فعاد بـ«الأمانة» إلى ثكنة العوينة التي لم يغادرها إلى بيته طيلة أكثر من عشرين يوما.
حال وصول الحافلة إلى القاعدة، تلقى العقيد إلياس المنكّبي اتصالا من رئيس أركان جيش الطيران أمير اللواء الطيب العجيمي الذي أبلغه الأمر- بتعليمات من وزير الدفاع حسب تقرير لجنة بودربالة- بتسليم الموقوفين جوازات سفرهم وبأن يؤمّن سفرهم نحو إيطاليا.
ويذكر تقرير لجنة بودربالة أنه تم جلب طائرة من نوع هركيل C130 من القاعدة الجوية سيدي أحمد ببنزرت لتأمين سفر «الطرابلسية». ما لم يذكره التقرير وورد في محاضر المحكمة العسكرية الدائمة بباب سعدون أن هذا الاتصال الهاتفي الذي تلقاه العقيد المنكّبي كان بحضور العقداء محيي الدين المتهني ومنصف بالرحومة آمر القاعدة الجوية بالعوينة والمقدم محمد الحجام والرائد حمودة بسيّس. العقيد المنكّبي رفض تطبيق التعليمات وقال لمخاطبه بأن الشعب التونسي لن يسامحنا إن أطلقنا سراح «الطرابلسية» وتركناهم يغادرون البلاد.
بعد دقائق اتصل مدير عام الأمن العسكري أحمد شابير(عين لاحقا مديرا عاما للأمن الوطني حين كان فرحات الراجحي وزيرا للداخلية، ثم أحيل على التقاعد) بعد أن أبلغه الجنرال العجيمي بعدم استجابة المنكبي ومجموعته للتعليمات وسأله لماذا رفضت تطبيق الأوامر، فلم يتزحزح موقف العقيد إلياس المنكّبي وحاول أن يلفت انتباه رؤسائه إلى أن الحكومة تم حلّها ولم تعد لوزير الدفاع شرعية إصدار التعليمات، فردّ عليه أمير اللواء شابير بأن عليه أن ينتظر قليلا حتى يعيد الاتصال به. بعد دقائق رن الهاتف الجوال للعقيد إلياس المنكّبي وكان أمير اللواء شابير على الخط من الطرف الآخر ليعلمه باقتناعه بالموقف المتّخذ.
انتهت المكالمة عند هذا الحد، بعدها أعاد الجنرال العجيمي الاتصال ليطلب من العقيد المنكّبي- بأمر من وزير الدفاع مرّة أخرى- أن يمنح الطرابلسية الموقوفين فرصة ليتدبروا أمرهم مادام قد رفض تمكينهم من امتطاء الطائرة العسكرية.
كان واضحا أن القيادة العسكرية كانت تحت ضغط غير عادي وقد أكدت المكالمات الهاتفية المسجلة في الطائرة الرئاسية أن المخلوع وزوجته اتصلا أكثر من مرة بوزير الدفاع رضا قريرة لفكّ حجز «الطرابلسية» وتمكينهم من السفر خارج تونس.
استجابة مساعد آمر القاعدة الجوية بالعوينة للتعليمات فاتجه نحو القاعة الشرفية ليأخذ معه إلى مكتبه منصف الطرابلسي وعماد الطرابلسي ومكن هذا الأخير من هاتفه الجوال، هنا سكت تقرير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق عن إيراد التفاصيل، فبمن اتصل عماد الطرابلسي بحثا عن فرصة الفرار من ثكنة العوينة؟
مصادر «التونسية» تؤكد بأن أول اتصال كان بأحد أبناء العقيد القذافي بلا جدوى، ثم اتصال ثان برجل الأعمال التونسي عزيز ميلاد (صاحب شركة طيران)، المفاجأة كانت في الاتصال الثالث بصقلية الإيطالية إذ جاءت الموافقة بإرسال طائرة في الحين باتجاه مطار تونس قرطاج (تم تسريب فيديو على اليوتيوب يتضمن حديثا لعماد الطرابلسي بالإيطالية في رحلة بحثه عن الخلاص) وأمام تطور الموقف بهذه الصورة غير المنتظرة، سحب العقيد المنكّبي الهاتف الجوال من عماد الطرابلسي ونقل رقم الهاتف الإيطالي وأفاد به أمير اللواء شابير المدير العام للأمن العسكري وأعاد عماد إلى القاعة الشرفية حيث يقبع الجماعة.
ظل عماد الطرابلسي يسأل عن الجديد وهل حلت الطائرة التي ستنقله خارج تونس والعقيد المنكّبي يماطله حتى طلوع الفجر.
وفي الوقت الذي أذاعت فيه قناة «الجزيرة» القطرية عن طريق أحد مراسليها بتونس نبأ وفاة عماد الطرابلسي، بادر هذا الأخير بتقديم عرض سخي إلى العقيد المنكّبي مقابل تمكينه من مغادرة القاعدة، تجاهل العقيد المنكّبي العرض «الطرابلسي» ولم يُعِرْه اهتماما.
فجر يوم السبت 15 جانفي 2011 قام العقيد المنكّي ورفاقه في القاعدة الجوية بتشكيل لجنة لجرد المحجوز الذي قدر لاحقا بمليار ونصف من العملة الصعبة وكمية كبيرة من المجوهرات تعادل قيمتها 7مليارات بعضها يعود إلى العائلة الحسينية (البايات).
كيف تم عزل علي السرياطي؟
ورد في تقرير اللجنة أن رئيس أركان جيش الطيران الجنرال العجيمي هو الذي اتصل بالعقيد المنكبي وطلب منه عزل السرياطي بسحب سلاحه وهاتفه الجوال وأن يقوم بإيقافه « تنحّيلو سلاحو وتوقفو» إلى حين قدوم الكومندوس التابع للجيش الوطني.
انتهت التعليمات هنا، ولكن تطبيقها كان على غاية من الخطورة فعلي السرياطي لم يكن بمفرده في ثكنة العوينة بل كان مرفوقا بـ35 عنصرا من الأمن الرئاسي، ولا ننسى أن عناصر الجيش تم تسليحها منذ يوم 9 جانفي 2011، عنصر آخر هو على غاية من الأهمية أنه عند حلول الركب الرئاسي حلت بقاعدة العوينة طائرتا هيليكوبتر من قاعدة الرمادية ببنزرت وعلى متنها خمسون من القوات الخاصة وهي من أفضل وحدات الجيش الوطني.
كان على العقيد إلياس المنكّبي ومجموعة الضباط الشرفاء من جيش الطيران بقاعدة العزينة أن يتجنبوا حدوث أي مواجهة بين قوات الجيش وقوات الأمن الرئاسي فتحدث العقيد إلياس المنكّبي إلى صديقه المقدّم إلياس زلاق مدير إدارة المرافقة في الأمن الرئاسي (يعمل حاليا بسلك الحرس الوطني) وطلب منه أن يعود إلى قصر قرطاج . استغرب الرجل الطلب وسأل «علاش؟ آش ثمّة؟» فأجابه «غدوة نقلك» كما أوردت مجلة «ميديابارت» الفرنسية.
إتجه العقيد المنكّبي نحو السرياطي وخاطبه كما تقتضي الأعراف العسكرية طالبا منه سلاحه وهاتفه الجوال، امتثل السرياطي للأمر ولكنه طلب تمكينه من إجراء مكالمة هاتفية أخيرة (طلب ذلك ليتمكن من مغالطة العقيد المنكّبي ويصرف النظر عن امتلاكه لجوّال ثان) فأجابه العقيد المنكبي بأن ذلك غير ممكن، تبين لاحقا أن السرياطي كان يحتفظ بجهاز هاتف جوال ثان وهو الذي استخدمه للاتصال بسامي سيك سالم ليطلب منه استدعاء فؤاد المبزع وعبد الله القلال ومحمد الغنوشي وفتحي عبد الناظر لقصر قرطاج لسد الشغور الرئاسي، كان العقيد المنكبي حينها في مطار تونس قرطاج لتسلم الطرد (الطرابلسية الذين أوقفهم المقدم سمير الطرهوني) وكان العقيد المنصف بالرحومة مكلّفا بحراسة علي السرياطي.
بعد ذلك قام العميد فوزي العلوي(مدير السجون حاليا) بنقل السرياطي إلى مقر الأمن العسكري(دار الباهي الأدغم) وتقول مصادرنا بأنه عرض (مبني للمجهول) على السرياطي أن يغادر تونس ولكنه رفض فلا شيء في نظره كان يدعوه إلى الهرب، ويفيد محضر بحث المحكمة العسكرية أواخر فيفري 2012 بأن السرياطي تلقى على هاتفه الجوال إرسالية قصيرة من سليم شيبوب بتاريخ 13 جانفي يطلب منه تبليغ الرئيس بأن عليه أن يأخذ قرارات مصيرية لترضية الشعب التونسي، كما تلقى إرسالية صباح الجمعة 14 جانفي 2011 من محمد الغرياني أمين عام التجمع (الحزب الحاكم طيلة 23 سنة) تفيد بمهاجمة مجموعات من المحتجين لقصر قرطاج كما تلقى اتصالات من بنات الرئيس المخلوع (قبل أن يخلع) وبعض أصهاره.
هل خدع السرياطي؟
انتهى تقرير لجنة توفيق بودربالة إلى أنه لم يثبت أن بن علي كان ينوي السفر فقد غادر مكتبه بسرعة وترك نظاراته الطبية وحاسوبه الشخصي الذي لم يعثر عليه إلى حد الآن(؟؟؟ ) وكان ينوي مرافقة العائلة إلى المطار، لكن السرياطي أقنعه بالسفر تفاديا لإراقة الدماء كما جاء في إفادته أمام لجنة تقصي الحقائق «بعد أن كانت المؤشرات تدل على وجود نية الهجوم على القصر الرئاسي زيادة عن وجود معلومة إستخبارتية أجنبية تفيد بوجود ضابط من الأمن الرئاسي بصدد التخطيط لقتل رئيس الجمهورية».
مصادر «التونسية» تؤكد أن السرياطي تلقى معلومة من طرف أحد مساعديه بوجود خطر قادم من ناحية البحر وهو ما دفعه إلى الاتصال بوزير الدفاع (رضا قريرة) ليطلب منه الإذن بخروج طائرة عمودية استطلاعية لتفقد الأحوال وهو ما تم، إذ حلقت الطائرة العمودية من ثكنة العوينة وعلى متنها العقيد بالأمن العسكري محمد مشماش مرفوقا بملازم أول من الحرس الوطني وقامت الطائرة بطلعتين، طلعة أولى في حدود الحادية عشرة ونصف صباحا لمدة ساعة ونصف وطلعة ثانية في حدود الواحدة والنصف بعد الزوال، فمن يكون مساعد السرياطي الذي أسر له بهذه المعلومة وماذا كان هدفه؟ وأين اختفى المساعد الأول للسرياطي وهو الذي تمت نقلته إلى مرصد المرور في ما بعد؟ وهل صحيح ما تردد من كون هذا الأخير اختار منذ بداية أحداث الثورة الانحياز إلى قيادة الجيش الوطني والتخلي عن ولائه لرئيسه المباشر في الأمن الرئاسي علي السرياطي؟ وهل هذا ما قصده محمد الغنوشي بقوله إبان تسلمه الحكم ليوم واحد»لقد أنقذنا البلاد من حمّام دم»؟ أي أنه جنّب البلاد حربا داخل القصر الرئاسي بين الذين بقوا على ولائهم للسرياطي وفي مقدمتهم سامي سيك سالم والذين اختاروا أن يقفوا إلى جانب عدنان حطاب الذي نأى بنفسه عن رئيسه.
بقي أن نسأل لماذا أفاد وزير الدفاع رضا قريرة في شهادته أمام اللجنة بأنه رد على بن علي حين سأله عن قصة الطائرة العمودية بأن المعلومة غير صحيحة (وهو ذات الموقف الذي صرّح به لراديو موزاييك لاحقا)؟ ومن نصحه بذلك؟
أين اختفت طائرة بلحسن الطرابلسي؟
في صباح يوم 15 جانفي2011 وفي حدود الساعة الرابعة فجرا، وردت معلومة على العقيد إلياس المنكبي مساعد آمر قاعدة العوينة بأن طائرة بلحسن الطرابلسي قد حطت بمطار تونس قرطاج لنقل المنصف الماطري وزوجته(والدا صخر الماطري) خارج تونس، وعلى الفور تنقل العقيد المنكبي رفقة المقدم شكري شبشوب على عين المكان، وفي المطار وجدا إلياس كرفاحي (مدير مطار تونس قرطاج) ومحمد الشريف (رئيس مدير عام ديوان الطيران المدني والمطارات) ومدير مكتب الديوانة بالمطار ومدير أمن المطار زهير البياتي، فقاما بإيقاف الطائرة التي كان على متنها طاقم فرنسي .
الغريب أنه بعد أيام قليلة سمح للزوج الماطري بالمغادرة سالمين آمنين، وبعد نقلة العقيد المنكبي من العوينة إلى برج العامري، غادرت طائرة بلحسن الطرابلسي مطار تونس قرطاج في ظروف غير معلومة، ويتردد أنه تم بيعها وقد تكون عادت إلى تونس برقم جديد Matricule.
وفي الساعة السادسة والنصف من صباح السبت 15 جانفي 2011 حطت الطائرة الرئاسية بمطار تونس قرطاج عائدة من العربية السعودية ودون أن ينتظر أي تعليمات من فوق، بادر العقيد المنكّبي بتشميع الطائرة وكل التجهيزات الموجودة بمستودع العوينة المربض الدائم للطائرة الرئاسية وتأمين المكالمات الهاتفية الصادرة منها والواردة عليها.
لعب العقيد إلياس المنكبي دورا هاما في أحداث يوم 14 جانفي 2011 إذ تحمل مسؤولية رفض قرارات كانت ستسمح للطرابلسية بالسفر وفضّل أن يتخذ موقفا يفتخر به ويعتبر مثالا من جملة الأمثلة المشرّفة لجيشنا الوطني خلال ثورة 14 جانفي.
هذا وتنفرد «التونسية» بنشر مجموعة من الصور التي التقطت في قاعدة العوينة يوم 14 جانفي 2011 ويظهر في عدد منها الطائرة الرئاسية قبل الفرار الأخير وصورا للطرابلسية وهم قيد الإيقاف تنشر لأول مرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اضف تعليقك.. واترك بصمتك