لا يختلف المتصوّفة في تونس عن المتصوّفة في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي، في عدم الميل إلى ممارسة العمل السياسي، إذ يرى مشائخهم وعلماؤهم منذ الإسلام المبكّر أن الإشتغال بالحكم مورّط في الشبهات والفِتن، وأنّه ابتلاء من الله لا يسعى مؤمن سالك إليه برجليه، وقد كان هذا رأي مشاهير التصوّف التونسي ورؤساء طرقها، القائم منهم و الزائر، كسيدي أبي سعيد الباجي والإمام إبن عرفة وسيدي أبي الحسن الشاذلي وسواهم، جميعهم تقريبا اشتغل بكلّ الأعمال دون السياسة تحديدا.
وقد عُرف عن الكثير من وجوه التصوّف في تونس تصدّيهم لأعمال شاقّة شديدة الصّلة بالسّلطة، كمهامّ حماية الثغور في الرباطات المنتشرة على السواحل التونسيّة الممتدّة على مئات الأميال من شمال البلاد إلى جنوبها، فقد ذكر المؤرّخون أنّ رجلا صالحا كسيدي أبي سعيد الباجي رابط عقودا في جبل المنار (جبل سيدي بوسعيد حاليا)، وأنّه كان يحرس نهارا ويُقيم اللّيل ذاكرا شاكرا، وأنّ الوليّ الصالح سيدي مهذب كان قائدا لكتيبة من المرابطين، غالبيّتهم من مريديه في المنطقة الساحلية الفاصلة بين مدينتي قابس و صفاقس، ولهذا فقد بقيت أرضها حبسا أوقفها أحد البايات عليه وعلى نسله.
كما اشتغل المتصوّفة بالعلم الشرعي، ووصل بعضهم إلى أعلى المراتب العلميّة في البلاد كشيخ جامع الزيتونة الأعظم، ومن هؤلاء على سبيل المثال سيدي ابراهيم الرياحي، الّذي كان أحد من كلّفهم حمّودة باشا باي بالرد على رسالة محمد بن عبد الوهاب الّتي دعاه فيها إلى اعتناق توجهه الوهابي الجديد آن ذاك، وقد ذكر أنّ الشيخ الرياحي كان أول مشائخ الطريقة “التيجانيّة” في تونس، وهي اليوم الطريقة الأكبر في العالم، إذ يقدّر عدد أتباعها بمئات الملايين، خصوصا في القارّة الأفريقية.
وبدأ الاهتمام بمواقف المتصوّفة من السياسة واضحا مع وقوع البلاد التونسيّة تحت نير الاستعمار الفرنسي ابتداء من 1881، إذ وجّه مؤرخون وساسة على السواء اتهامات لبعض الطرق الصوفيّة بالتواطئ مع المستعمر، وتيسير مهامه و تثبيط عزائم النّاس على مقاومته، لكن هذه الاتهامات تظلّ قابلة للنقض مع ثبوت أنّ كثيرا من الطرق الصوفية، خصوصا الطريقة القادريّة واسعة الانتشار في البلاد، شجّعت مريديها على الإنخراط في حركة المقاومة الشعبيّة الّتي قادها الشيخ علي بن خليفة النفّاتي، والّتي انطلقت شرارتها من مسجد عقبة بن نافع في القيروان.
ويرى آخرون أنّ رعاية المستعمر الفرنسي لبعض الزوايا الصوفيّة، انطلاقا من تقدير كرّسه بعض المستشرقين، يقول أنّ الفكر الصوفي ناشر للخمول والقبول بالأمر الواقع بين أتباعه، لم تنتبه إلى بعد طالما اشتهرت به التنشئة السياسية للطرق الصوفيّة وتميّزت به عن سائر التيارات الناشطة بين المسلمين، وهو أنّ المقاومة المسلّحة للمستعمر لا تجوز إلا عندما يتمّ الإعداد الجيّد لها، وإلّا أصبحت رميا للنفس إلى التهلكة.
ولا يحيد مؤرّخون تونسيّون كثر عن الفكرة القائلة بأنّ الطرق الصوفية التونسية الشهيرة، كالقادرية والشاذلية والتيجانيّة دعّمت بشكل لا تردّد فيه الحركة الوطنية منذ بواكيرها، و أنها مثّلت وعاء صلبا للهوية الثقافية والقومية التونسية، وأنّها ساندت شعبها في كافة اللحظات الحاسمة، الّتي اقتضت تبلور وحدة وطنيّة، وأنّها وإن لم تشتغل في حركة المقاومة بشكل مباشر، لكنّها عملت على الوقوف إلى جانبها في غالب الأحيان.
وقد بدا موقف الزعيم بورقيبة مؤسّس الدولة التونسية المستقلّة، شديد النقديّة لممارسات بعض الطرق الصوفيّة، الّتي بدت له معوّقا لمشروع التقدّم والتّحديث الّذي أطلقه، غير أنّ هذا الموقف لم يبلغ درجة إصدار قانون يلغي الطرق الصوفيّة، مثلما فعل كمال أتاتورك، إذ حافظ المتصوّفة التونسيون على سيرتهم الذائعة، إذ تجنّبوا مصادمة السلطة خلافا لحركات الإسلام السياسي، وفضّلوا الاشتغال على الجوانب الروحية والأخلاقية لأبناء مجتمعهم.
ولم يَشذّ المتصوّفة التونسيّون عن هذه السيرة إبّان الرئيس السابق زين العابدين بن علي، إذ لم تعرف عنهم مواقف تأييد صريحة، كما لم تسمع منهم مواقف صريحة في معارضتها، وفيما واجه أعضاء الحركات الإسلامية الكثير من القمع والمحاصرة، فإنّ الطرق الصوفيّة فضّلت الهدنة والحفاظ على مربّع أخير للتدّين، كان فعلا ملجأ وحصنا للكثير من المتديّنين الّذين لم تكن لديهم رغبة في إذكاء الصراع بين الإسلاميين والسّلطة، كما حزّ في أنفسهم أن لا يتمكّنوا من ممارسة شعائرهم التعبّدية و طقوسهم الدينية.
وعلى الرغم من المناخ المتحرّر نسبيا الّذي تبلور بعد الثورة، فإنّ الصوفيّين في تونس لم يراجعوا موقفهم المتحفّظ بشكل جذري من العمل السياسي، و فضّلوا عدم الانخراط بشكل مباشر في الحياة الحزبيّة، إلّا أنّ ذلك لا يحجب حقيقتَين في السلوك السياسي لأهل التصوّف من التونسيّين، أولهما امتعاضهم الشديد من الاعتداءات التخربية التي طالت زواياهم، و ثانيهما معارضتهم الشديدة للفكر السلفي الوهّابي ودعوتهم إلى إحياء التعليم الزيتوني ودعمهم للتوجّهات الوطنية في مقابل الرؤى المستوردة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اضف تعليقك.. واترك بصمتك