سيدي محرز من الأسماء الجارية على السنة التونسيات والتونسيين، إنهم يلقبونه بسلطان المدينة، مدينة تونس التي يحتل سيدي محرز قلبها هناك في باب سويقة ذلك الحي العريق المليء بالذكريات. والذي شهدت ساحته عديد الأحداث، ويسكن سيدي محرز قلوب التونسيين ليس فقط المسلمين منهم بل وكذلك غير المسلمين، بالخصوص اليهود التونسيين الذين وجدوا من سيدي محرز في حياته العطف والعناية والرعاية فهو من تدخل لفائدة الجالية اليهودية كي لا يبقى مقر سكناها خارج أسوار مدينة تونس التي كانت تغلق أبوابها عند كل مساء. ليخرج منها اليهود إلى حيث ألزموا بالسكن هناك في الملاسين. وأثمرت شفاعة سيدي محرز في الجالية اليهودية بأن تسكن داخل المدينة هناك بجواره بباب سويقة في الحارة، التي ظلت تحمل هذا الاسم إلى ان غادرها أصحابه إلى الخارج: فرنسا... وكان سيدي محرز الملاذ والملجأ الذي به احتمى اليهود فرارا بأنفسهم من ملاحقة من ناصبوهم العداء، ولاحقوهم حيثما كانوا في أوروبا وحتى هنا في تونس وهم بلا شك ليسوا من العرب والمسلمين هؤلاء الذين كانوا دائما مثالا للتسامح منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هناك في المدينة عندما أعطاهم عهدا وميثاقا تضمنه دستور المدينة والذي لا يوال إلى اليوم حجة ناطقة على سماحة المسلمين وإنسانيتهم. وامتد هذا التسامح عبر الزمان والمكان هناك في الأندلس حيث عاش اليهود أزهى حقبات تاريخهم، فكانوا جنبا إلى جنب مع المسلمين يعيشون في أمن ووئام وسلام ويساهمون كل بقسطه في رقي وتقدم الحضارة الإنسانية التي هي جهد مشترك بين كل بني الإنسان بمختلف أعراقهم وأجناسهم وألوانهم وعقائدهم، وعندما تسلط على المسلمين ما تسلط من ظلم واضطهاد وتشريد مارسته محاكم التفتيش بمباركة من الكنيسة ورجالها، نال اليهود قسطهم من هذا التشريد والتنكيل وكانت الوجهة ديار العرب والمسلمين هنا في شمال إفريقيا (تونس والجزائر والمغرب)، حيث وجد اليهود في المدن والقرى حتى تلك التي في أقصى الصحراء الأمن وكرم الضيافة والأريحية.. وكبار السن ممن لا يزالون على قيد الحياة من اليهود التونسيين يشهدون بهذه السماحة لأهل تونس، سماحة اقتدى فيها التونسيون بولاة أمورهم واقتدوا فيها بعلمائهم الأعلام وصلحائهم الذين جسموا سماحة الإسلام في أجمل صورها، سماحة نطق بها الكتاب العزيز (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)، سماحة جسمها رسول اله صلى الله عليه وسلم في معاملته الحسنة ودفعه بالتي هي أحسن وعفوه حتى عمن أساء إليه ونال منه. إنه خلق رسول الله العظيم كما تجلى في قيامه إجلالا لجنازة يهودي كانت مارة أمامه قائلا لأصحابه: أليست نفسا؟ سماحة جسمها من بعده أصحابه فهذا عمر بن الخطاب يمر بيهودي وجده يمد يده قال له: ظلمناك أخذنا منك الجزية صغيرا وتركناك كبيرا... ثم أمر له براتب من بيت مال المسلمين إنها سماحة الإسلام التي توارثتها أجيال المسلمين، فكانت معاملتهم مع من هم على غير دينهم معاملة الاحترام والتعاون على كل ما فيه خير للجميع.
إن اليهود التونسيين أولئك الذين كانوا يعيشون على أرض تونس وبين أهلها مكرمين مبجلين عندما تتهيأ لهم فرص زيارة تونس في سياحة أو عمل لا ينسون (الكبار منهم) أن يعرجوا على باب سويقة هناك حيث زاوية سيدي محرز التي فيها ضريحه ولا يستنكف البعض منهم ان يأتي معه بهدية للزاوية تماما مثلما يفعل من يزوره من أهل تونس من المسلمين. ويحفظ القائمون على زاوية سيدي محرز أسماء يهود من النساء والرجال الذين قدموا بين يدي زيارتهم لسلطان المدينة هدية قد تكون شموعا أو زرابي أو ثريات تنويرا وتجميلا لهذا المعلم الديني والروحي الذي تواصل حضوره على مر القرون،سيدي محرز معلم القرآن ومركز العقيدة الإسلامية في العقول والقلوب صاحب رسالة أداها على أتم الوجوه، وأحسنها بإخلاص وتفان فكان لهذه الرسالة النجاح وكان لها الدوام والاستمرار لأنه ليس لهذه الرسالة من غاية أو هدف إلا الحفاظ على عقيدة الأمة ودينها والحفاظ على وحدتها واجتماع كلمتها والحفاظ لها على أمنها وسلامتها واستقرارها والوقوف في وجه كل من يتهدد ما يعتبره سيدي محرز مكسبا واعتبره معه على مر الأجيال وتعاقبها كل التونسيين ميزة وخصوصية، كان تعليم القرآن للصبيان، أجيال الغد ورجال المستقبل هو العاصم لهم من الوقوع فريسة للملل والنحل وقد أضاف سيدي محرز إلى هذه الحصانة بالقرآن الذي هو السراج المنير والصراط المستقيم والعروة الوثقى من حفظه وعمل بهديه القويم نجا وفاز ونال المراد أضاف إلى ذلك تفقيه أولئك الصبيان في دينهم (ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) فكان طلبه من فقيه تونسي الملقب بمالك الصغير عبد الله ابن أبي زيد كي يؤلف له رسالة في الفقه تجمع بين يسر العبارة وسهولتها دقة وصحة المعلومة. واستجاب ابن أبي زيد لهذا الطلب الذي ليس له من غاية إلا وجه الله، وكذلكم كانت أحوال علماء الأمة الذين خلد التاريخ ذكرهم لم يكن لهم من دافع في ما ألفوا وعملوا إلا ابتغاء وجه الله ومرضاته، لم يطلبوا بعلمهم جاها ولا مالا ولا سلطانا. فكانت رسالة ابن أبي زيد القيرواني الكتاب الذي لم يستطع أن يؤلف مثله احد من بعده تلقتها الأمة وعلماؤها بالقبول، وانكبوا عليها يعلمونها لناس ويفقهونهم بها، ولا تزال الرسالة إلى يوم الناس محل إعجاب وإشادة واستفادة الجميع منهم ليس فقط في تونس وما حولها من بلاد الشمال الإفريقي وإفريقيا الغربية وما وراء الصحراء، بل هناك بعيدا جدا في أقصى الشرق وهناك اليوم في أوروبا وبريطانيا وأمريكا حيث تعد حولها الأطروحات والبحوث والدراسات العلمية والجامعية.
وعندما تعرضت تونس البلاد وتونس المدينة إلى هجمة المد الشيعي كان سيدي محرز هو الملاذ، الملاذ الروحي بصلاحه وتقواه والملاذ العلمي والملاذ الاجتماعي باعتبار أن الزاوية كان يأوي إليها الفقير والمحتاج وفاقد السند وعابر السبيل فيجد الجميع العناية والرعاية.
وأمكن لسيدي محرز الذي هو سلطان لا بالمعنى الزمني السياسي لكلمة سلطان، وإنما هو سلطان بالمعنى الروحي والروح عالم رحب فسيح محل المشاعر الفياضة ومصدر العزائم القوية. فالروح من أمر الله وأمر الله عظيم (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) قاد سيدي محرز سلطان المدينة حملة التصدي والصمود للمد الشيعي الذي لم يتخذ سبيل الحجة والإقناع والمجادلة العقلية، فذلك ما لا يستطيع أن يرفضه أحد وإنما استعمل المد الشيعي الهاجم على تونس البلاد، وقد اكتسح اغلب ربوعها وتونس المدينة التي آخر الحصون، استعمل قوة السلاح في استباحة للدماء والأعراض والأموال وتقتيل وترويع وتخريب وتدمير فكان قائد التصدي لهذا المد هو سيدي محرز الذي التف حوله أهل تونس جميعهم، وبكل فئاتهم وكفى الله المؤمنين شر القتال ودحر الله هذه الهجمة وكان سيدي محرز هو البطل الذي صمد واستعان بما له لدى الله من دالة وماله من حسن ظن بربه الذي دعاه فأجابه فكانت بإذن الله تونس ولم يكن باديس قائد الحملة.
ظل سيدي محرز بعد ذلك رمزا لصفاء العقيدة وسلامتها، ورمزا لجمع الكلمة ورمزا للعطف والرحمة والحرب بالضعيف والفقير والمحتاج، وظل سند أهل تونس القرآني متواصلا على أيدي شيوخ بررة إلى عصرنا الحاضر، وليس غريبا ان يكون الشيخ عبد العزيز الباوندي مؤسس الإملاءات القرآنية والشيخ حسن الخياري من واصل طريقته من بعده من أجوار وسكان الأحياء القريبة من سيدي محرز. ولا غرابة أن يكون الشيخان الخطوي دحمان وحسن الورغي شيخا تحفيظ القرآن أمد الله في أنفسهما أيضا من أجوار سيدي محرز فحدهما إمام-سبحان الله والآخر إمام بجامع البرج القريبين من سيدي محرز وجهودهما المباركة في تحفيظ القرآن تذكر فتشكر.
أما سيدي محرز المعلم والزاوية فهي التي شهدت على مر القرون على تعاقب الدول التي حكمت تونس التوسعة تلو التوسعة إلى عصرنا الحاضر، على اثر الاستقلال وبعد التحول المبارك، إنها اليوم مهيأة على أحسن الوجوه لزوارها من الرجال والنساء على مدار السنة صيفا وشتاء، ربيعا وخريفا في مواعيد مضبوطة، الكل يأتيها، يأتيها أتباع الطريقة الشاذلية كل يوم أربعاء حيث يقيمون العمل الشاذلي ويأتونها مرة في السنة بمناسبة أربعين المولد النبوي صحبة شيخهم الشيخ حسن بن حسن، ويأتي إلى زاوية سيدي محرز العيساوية (عيساوية أريانة بالخصوص) ويأتي إلى زاوية سيدي محرز التجانية من التونسيين ومن الإخوان المغاربة، وقلما يزور التجانية زاوية غير زاوية شيخهم سيدي احمد التيجاني دفين فاس ولكنهم يزورون زاوية سيدي محرز.
كما يزور زاوية سيدي محرز ذوو الحاجات والحالات ممن يعتقدون أنهم بزيارة مثل هذه المقامات التي يذكر فيها الله ويتلى فيها القرآن يقضي لهم الله حاجاتهم (وإنما الأعمال بالنيات) يأتي إلى سيدي محرز من هم مقدمون على إجراء الامتحانات من التلاميذ والطلبة وتاتي إلى سيدي محرز الفتيات أما فرادى أو تصطحبهن أمهاتهم لتدعو الله كي ييسر الله عليهن الزواج. ويجعل زواجهن ناجحا بإذن الله. وتحرص بعض العائلات خصوصا تلك الاصيلة لتونس ان تنتظم عقود إشهارها لزواج أبنائها وبناتها في رحاب زاوية سيدي محرز المعمورة بالذكر والقرآن.
إن سيدي محرز المعلم والزاوية التي تضم الضريح وملحقاتها وما يتبعها وما يحمل اسمها كجامع سيدي محرز القريب من الزاوية أو الخلوات المحرزية الموجودة في أحياء أخرى من العاصمة وكذلك كيفية عمل الزاوية ومن يتولى مشيختها وكيفية تلقي وقسمة ما يقدم للزاوية من هدايا وكذلك الوصف المعماري لمكونات الزاوية وبعض الوثائق والنصوص الشعرية وحتى صيغ الدعوات لعقود القران فضلا عن صور ملونة جميلة كل ذلك احتواه الكتاب الصادر أخيرا باللغة الفرنسية والذي يحمل عنوان “سيدي محرز” “سلطان المدينة” والذي ألفه الدكتور هادي المحرزي. وهو احد أحفاد سيدي محرز والأستاذ المبرز في الطب رئيس قسم طب الأطفال بالمستشفى الجامعي بالمرسى. إنه عمل علمي توثيقي وصفي من احد أحفاد سيدي محرز واحد أبناء الزاوية المعتز بها وبمؤسسها وبالدور الذي قامت به في تونس وخارجها وفي مختلف المجالات والميادين انه بحق كتاب ثري ومفيد، جمع فيه صاحبه بأسلوب جميل ما تفرق في الكتب والمخطوطات وما يجري على الألسنة من الأخبار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اضف تعليقك.. واترك بصمتك