الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

يوسف صاحب الطابع الرجل القوي في عهد حمودة باشا

حمودة باشا
من مواليد ( ملدافيا ) أو ( القوقاز ) أوائل النصف الثاني من القرن 18 ، مملوك سيكون له دور كبير في تثبيت أركان المملكة التونسية و إصلاح مؤسساتها و صناعة إنتصاراتها خلال عهد حمودة باشا الحسيني .
إشتراه القايد بكّار الجلولي والي صفاقس سنة 1781 من سييّده الفقير في إسطمبول الي ما عادش قادر على القيام بشؤون مملوكه، و كان الفتى يوسف من بين مجموعة المماليك الي شراهم مبعوث بكّار الجلولي قصد إهدائهم إلى الأمير حمودة باشا بغاية التقرّب منه بعد أن تبيّن والي صفاقس و باقي كبار الدولة أن حمودة هو خليفة والده المريض علي باي .



لم يمكث الفتى يوسف بصفاقس سوى بضعة أشهر، لكن فيسع تعلّم فيها لغة البلاد و عاداتها، و قد سهر القايد نفسه على تدريبه لما رآه فيه من رصانة و وقار و حنكة، ثم نقل يوسف إلى تونس

العاصمة و تحديدا قصر باردو لإلحاقه بخدم الأمير حمودة باشا .

تميّز الفتى يوسف بشعور عميق بمؤهلاته و طموح فائق و رغبة ملحّة في العمل، فأعتنم أول فرصة سنحت له لمخاطبة الأمير و إلتماس تشريفه له بمصاحبته على رأس " المحلّة " لإستخلاص الضرائب، كما إلتمس منه تكليفه بتقدّم الموكب الرسمي رافعًا الرمح ( رمز السلطة الملكيّة )، لكن طلبه رفض و مع ذلك تمكن من مرافقة الأمير كباقي المماليك.

كانت مرافقة يوسف للأمير حمودة باشا فرصة ليلاحظ الأخير علامات العزم و رباطة الجأش و التفاني لدى مملوكه، فكلّفه بخطّة " صاحب الطابع " و هي مهمة وضع الأختام على الوثائق الي تعرض على الأمير . فصار بذلك على إتصال مباشر بالأمير و حظي بسهولة على ثقته .

إستغلّّ يوسف وجوده ضمن المحلّة لدراسة شؤون البلاد و أهلها و التدرّب على الأساليب الإدارية الجاري العمل بها و إكتساب تلك الخبرة التي لا يمكن أن يوفرها له إلاّ الإطلاع على الأوضاع الإجتماعية و الواقع اليومي بالبلاد .

عندما خلف الأمير حمودة باشا والده على العرش الحسيني، كلّف خادمه المفضّل يوسف بالسهر شخصيا على إعادة تنظيم الإدارة الجهوية بالمملكة و إنتداب العمّال (ولاة الأقاليم) و مراقبة إدارتهم مراقبة مشددة لإجتناب ما عرف به أولئك الممثلون للسلطة المركزية من تجاوزات و إخلال بالواجب، فكانت تلك الخطة التي كلّف بها بمثابة وزارة الداخلية، و بفضل ما أظهره من ثبات و كدّ في القيام بتلك المهمة الدقيقة و المعقدة، توفّق إلى إعادة شيء من النظام إلى المصالح الجهوية التي كانت تسير من قبل في كنف الإدارة المطلقة و الإهمال التام، و تمكن من حمل جميع الناس على إحترام السلطة عبر ضمان العدل و السلم لجميع المتساكنين.

في سنة 1792 إستولى الباشا العثماني علي برغل على طرابلس و طرد منها قادتها الشرعيين كما إحتلّ جزيرة جربة، فما كان من حمودة باشا إلا تحرير الجزيرة و تسيير حملة عسكرية إلى طرابلس تمكن بعدها من طرد علي برغل و إرجاع الحكم إلى عائلة القرمنلي ، لكن هذه المبادرة أحدثت حساسيات بين المملكة التونسية و السلطنة العثمانية.

فكلّف حمودة باشا وزيره يوسف صاحب الطابع بمهمة تسوية الخلافات مع "الباب العالي" و إرجاع الأمور إلى نصابها، تلك المهمة أظهرت ما يتميّز به الوزير من خصال الرجل المفاوض و مهارة الدبلوماسي المحنّك، فتمكن من إحباط جميع المؤامرات التي حاكها خصوم بلاده و تسوية الخلافات مع إسطمبول .

و يذكر أحمد بن أبي الضياف، أن الوزير يوسف دخل مناء إسطمبول رافعا على سفينته " سنجق " (علم) باي تونس تأكيدا على إستقلالية المملكة التونسية، و رفض إنزاله رغم إحتجاج الأتراك و كان جوابه ( يتنحّى راسي .. و العلم ما يتنحّاش )، أجبر ذلك الموقف الشجاع الأتراك على إحترام الرجل ، و أوفد السلطان سليم الثالث مبعوثا لتقديم هدايا ثمينة للعاهل التونسي و إبلاغه تمنيات السلطان بالإزدهار لعهده و السعادة لمملكته .

و كان حمودة باشا في إستقبال يوسف صاحب الطابع في موكب غير معهود تعبيرا له عن رضاه عما أسفرت عنه مهمته من نتائج غير متوقعة ، عزز ذلك جانب الوزير الشاب و زاد من حظوته لدى الباي و من نفوذه في البلاط الذي يحتل فيه مكانة مرموقة .

مع وفاة الوزير الأكبر مصطفى خوجة عيّن حمودة باشا يوسف صاحب الطابع خليفة له، و هذكا صار يشرف على المفاوضات الدبلوماسية و تدبير الشؤون الداخلية للبلاد و كان يتميز بإعتدال لا يخلو من حزم و حنكة فائقة جلبت له تقدير من إتصلوا به من أوروبيين و تونسيين . كما كرّس كل جهوده للنهوض بإقتصاد البلاد فشجع أرباب الحرف و دعم الصناعات المحلية الصغرى و ساعد التجارة، و بفضل ما إتخذه من إجراءات حمائيّة مناسبة و ما أبرمه ببراعة من إتفاقيات مع الدول الأجنبية إستطاع أن يحقق للبلاد إزدهارًا كانت قد فقدته من أمد بعيد .

كان يوسف صاحب الطابع بالإضافة إلى منصبه يتعاطى التجارة المربحة و بفضلها إستطاع الإهتمام بالتعليم و أعمال البرّ و الإحسان، من ذلك أنه قد أحدث من ماله الخاص عدد كبيرا من الكتاتيب و أسس المدارس المخصصة لإيواء فقراء الطلبة و أنفق على المستشفيات و رصد أموالا طائلة لإغاثة الفقراء الذين منعتهم كرامتهم من مدّ أيديهم، فلم يكن شي أحب إليه من تسديد ديون أحد الحرفيين الصغار أو تجهيز فتاة فقيرة أو يتيمة أو إرجاع مسكن مرهون لصاحبه أو الإنفاق على الأطفال اليتامى، فمكنته هذه الأعمال من الحصول على رضى العلماء و المثقفين و صار يعرف بـأبو المحاسن .

في سنة 1807 إندلعت الحرب الجزائرية-التونسية و إنهزم الجيش التونسي في مدخل (قسنطينة) و تقهقر إلى الحدود، فذعر حمودة باشا من إمكانية الإجتياح الذي يهدد بلاده و جهّز بمنتهى السرعة جيشا جديدًا عهد بقيادته إلى وزيره الأكبر فتحوّل يوسف صاحب الطابع إلى قائد عسكري و أظهر من خصال القيادة و الزعامة ما حقق له الإنتصار الباهر على الجزائريين و تحرير المدن المستباحة من المعتدين .

بعد وفاة حمودة باشا (15 سبتمبر 1814)، تولّى عثمان باي حكم البلاد و كان السبب في وصوله للحكم و أول من بايعه هو يوسف صاحب الطابع، لكن حكم عثمان مادامش أكثر من 3 شهور فقد أغتيل في الليلة الفاصلة بين 20 و 21 ديسمبر 1814 بتدبير من ولد عمّ حمودة باشا الأمير محمود .

فإبتعد يوسف صاحب الطابع مدة من الزمن عن شؤون المملكة في إنتظار ما سيمليه تطوّر الأحداث، خاصة و أنه معروف بولائه للفرع الأصغر للعائلة الحسينية الذي أبيد مع تصفية أولادعثمان باي ، و فكّر في مغادرة البلاد لكن محمود باي أراد الإستفادة من خبرته فقرّبه إلى العرش من جديد، و لكن هذه الخطوة أثارت أعداء يوسف الكثيرين في البلاط فبدأو بالتخطيط للتخلص منه و الإيقاع بينه و بين الباي الجديد عبر الوشايات و تدبير المكائد .

و بعد تردد طويل قرر محمود باي دعوة الوزير الأكبر يوسف إلى المثول بين يديه لتبرير التهم الموجهة إليه و مكافحة متهميه، إلا أن هذه المكافحة ستبطل مشاريع أعداء الوزير إذا لا حجج لهم لإثبات التهم و قد يتعرضون للعقاب الشديد بتهمة التضليل، فقرروا حينها التخلص من الوزير يوسف بأنفسهم للخروج من هذا المأزق، فبينما كان يوسف الواثق بنفسه يهم بالدخول إلى ممرّ مظلم يفضي إلى قاعة الباي، إذ تقدم إليه أحد المتآمرين المدعو أكحل العيون و قد كان متخفيا في إحدى زوايا الممرّ و خاطبه بعبارات بذيئة إغتاظ منها يوسف و إنقضّ عليه و سدد لخصمه طعنة عنيفة في وجهه، و لما سمع باقي المتآمرين صيحات رفيقهم سارعوا إلى يوسف و سددّوا إليه عدة طعنات بالخناجر حتى مات، و بعد إتمام عملهم توجهوا إلى الباي مصرحين له بأنهم أنقذوا حياته و عرشه حينما قتلوا الوزير الذي كان منذ حين متوجهًا لإغتياله .

لم يكتف المتآمرون بإغتيال يوسف صاحب الطابع، بل مثلوا بجثته في الشارع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اضف تعليقك.. واترك بصمتك

التسميات

الفن والثقافة (32) السياسة (31) الرياضة (22) الفن (18) الثقافة والسياسة (17) الثقافة (14) المسرح التونسي (12) الحبيب بورقيبة (7) الموسيقى التونسية (6) جماعة تحت السور (4) زين العابدين بن علي (4) محمد مزالي (4) Culture (3) acteur (3) الاغنية التونسية (3) المخابرات التونسية (3) رجل أعمال تونسي (3) شخصيات (3) صالح بن يوسف (3) فن المزود (3) فنان تونسي (3) ليلى الطرابلسي (3) مناضل تونسي (3) Rafik Abdessalem (2) biographie (2) الأمين النهدي (2) التلفزيون والمسرح (2) الجمعية الخلدونية (2) السياسة والرياضة (2) السينما التونسية (2) الطرق الصوفية (2) المدرسة الرشيدية (2) المدرسة الصادقية (2) المسرح التونسى (2) المنصف باي (2) بريكة و ضحيكة (2) تاريخ تونس (2) حركة الشباب التونسي (2) حنبعل (2) راشد الغنوشي (2) زبير التركي (2) سليم الرياحي (2) سياسي تونسي (2) صحفي تونسي (2) صحفي ومذيع تونسي (2) فريد بوغدير (2) فنانة ومطربة تونسية (2) كمال التواتي (2) نجيب الخطاب (2) وسيلة بن عمار (2) Actualités (1) Charlie Chaplin (1) Comedy (1) Comique (1) Comédienne (1) Couscous (1) Dhafer El Abidine (1) Ettounsiya (1) Evénements (1) George Adda (1) Hédi Semlali (1) Juifs tunisiens (1) Kamel Ben Ouanès (1) La Rachidia (1) Labess (1) Le Caire (1) Londres (1) Mahmoud Larnaout (1) Mariinski (1) Mohamed Haddad (1) Monder critique le salafisme (1) Mondher jéridi (1) Musique tunisienne (1) Olfa Riahi (1) Oscar (1) Russie (1) Saint-Pétersbourg (1) Salah Khémissi (1) Sami Fehri (1) acteur tunisien (1) animateur (1) blague (1) chanteur tunisien (1) cinéma (1) compositeur (1) critique (1) festivals (1) hedi ben baballah (1) historien tunisien. (1) homme politique tunisien (1) interview (1) journal sarih (1) journaliste tunisien (1) olfa riahi (1) opéra (1) police tunisiens (1) poète (1) réalisateur tunisien (1) sainte tunisienne (1) théâtre (1) tunisien (1) universitaire (1) écrivaine tunisienne (1) آل باتشينو (1) أحمد التلّيسي (1) أحمد العربي الصوري (1) أحمد بن صالح (1) أحمد بن عروس (1) أخبار اليوم (1) أدباء (1) أديب تونسي (1) ألبير ميمي (1) إرهابيي (1) إعلامي تونسي (1) ابو القاسم الشابي (1) اسرار و خبايا (1) اغتيال شكرى بلعيد (1) الأمين النهدي. بطيخ الثورة (1) الاغنية الفكاهيةةالساحة الفنية التونسية (1) الباجي قائد السبسي (1) البشير زرق العيون (1) الجزائ (1) الجهاد في سوريا (1) الحركة الإسلامية (1) الحسين بن علي (1) الحسينيين (1) الرقيب الأول (1) الرومان (1) الزيتونة (1) السرياطي (1) السيدة علياء (1) السيرة الذاتية (1) الشباب السلفي (1) الصادق ثريا (1) الطاهر بلخوجة (1) الطيب المهيري (1) الفاضل الجعايبي (1) الفن التشكيلي التونسي (1) الفن الشعبي (1) الفن والثقافة والسياسة (1) الفنان المنذر الجريدي (1) الفنان منذر الجريدي (1) الفَلاّڤَة (1) القاهرة (1) القصرين (1) الكاميرا الخفية (1) المالوف والموشحات (1) المسرح والسينما في تونس (1) المسرحية (1) المسرحية الكوميدية السياسيةفهمتكم...مشاهدة طيبة للجميع. (1) المنتج طارق بن عمار (1) الموسيقيين التونسيين (1) اليد الحمراء (1) اليد السوداء (1) اليهود التونسيين (1) انتحار (1) انتفاضة الخبز (1) بايات تونس (1) بن علي (1) بورقيبة (1) تاريخ (1) تونسي يهودي (1) ثورة تونس (1) ثوري تونسي (1) جامعة الزيتونة (1) جريدة الحاضرة (1) جلبار نقاش (1) جمعيات ومنظمات تونسية (1) جندوبة والقصرين (1) حبيبة مسيكة (1) حكم البايات (1) حمادي العقربي (1) حوادث «الترام» (1) حوار خاص (1) خليفة السطنبولي (1) ذكرى محمد (1) رؤوف بن يغلان (1) رئيس للجمهورية التونسية (1) رجال اعمال تونس (1) رجال الاعمال (1) رجل اعمال (1) رجل عرفه الشارع التونسي (1) رسام ونحات تونسي (1) رشيد صفر (1) رضا القلعي (1) رمز تاريخى (1) روبير دينير (1) سالم بوحاجب (1) سامي الفهري (1) سفاح نابل (1) سلمى بكار (1) سيدى مُحْرِز (1) سينمائي تونسي (1) سِلفان شالوم (1) شبيلة راشد (1) شعراء (1) شكري بلعيد (1) صاحب الطابع (1) صالح الخميسي (1) صالح الفرزيط (1) صباط الظلام (1) طارق ذياب (1) عالم تونسي (1) عبد السلام الأسمر (1) عبد الفتاح مورو (1) عبد الله الجليدي (1) عبد الوهاب بن عياد (1) عبدالله القلال (1) عداء تونسي (1) عمار فرحات (1) فرانسيس فورد كوبولا (1) فرحات حشاد (1) فسا (1) فنان وملحن تونسي (1) فنانين (1) فيلم تونسي (1) قرطاج (1) كاميرا Fachée (1) كمال لطايف (1) كوثر الباردي (1) كوميديين (1) لاعب دولي تونسي (1) للفاضل الجزيري (1) لمين النهدي (1) ليلى الطرابلسى (1) مادونا (1) ماسينيسا (1) محرقة يهود تونس (1) محسن الشريف (1) محمد الجلاصي (1) محمد الجموسي (1) محمد الصياح (1) محمد العزيز بوعتور (1) محمد علي عقيد (1) مخرج سينمائي تونسي (1) مذيعة تونسية (1) مسرحيات المونودراما (1) مشاهير الفن التونسي (1) مشاهير اليهود التونسيين (1) مشاهير تونس (1) مصادر أمنية وعسكرية مصرية (1) مصر (1) مصطفى خريف (1) مصطفى قتال الصيدة (1) مطرب (1) مطربة (1) مقاطع الفيديو (1) ممثل تونسي (1) ممثل كوميدي تونسي (1) ممثلة تونسية (1) مناضل اليساري (1) مندر الجريدى (1) منذر الجريدي (1) منى نور الدين (1) مهدي مبروك (1) مواهب مندر الجريدى (1) موروث شعبي (1) موسيقار (1) موسيقين (1) ميشيل بوجناح (1) نصرالدين السهيلي (1) نور الدين بن عياد (1) نوميديا (1) هشام سلام.مندر الجريدى (1) هناء راشد - السيرة الذاتية (1) هند صبري (1) وليلى الطرابلسي (1) يهودي تونسي (1)

أرشيف المدونة الإلكترونية

اضف تعليقك.. واترك بصمتك

البحث في هذا الموقع