خضعت تونس كما الجزائر للهيمنة الإستعمارية الفرنسية , وتعرضّت هويتها العربية إلى كثير من المسخ الأمر الذي جعل الحركة الوطنية تركّز على تحقيق الإستقلال الثقافي والسياسي على حدّ سواء , وقد لعب جامع الزيتونة العريق في تونس دورا كبيرا في صقل الشخصية الوطنية وخاض صراعا مريرا ضدّ الإستعمار الفرنسي , و مثلما لعب الأزهر الشريف في مصر دورا تاريخيا ضدّ الإنجليز فكذلك الأمر بالنسبة لجامع الزيتونة .
وكان العديد من رجال العلم والإصلاح في الجزائر يتوجهّون إلى تونس لإكمال دراساتهم العليا في الدراسات الشرعية والأدبية , كما أنّ تونس تحولّت إلى قاعدة خلفيّة للثورة الجزائرية , حيث كان قادة الثورة الجزائرية يتنقلّون إلى تونس إذا أرادوا التوجّه إلى عاصمة عربية أو غربية , كما أنّ الأسلحة التي كانت تصل إلى الثوّار الجزائريين كانت تعبر الأراضي التونسية ومنه إلى الجبال حيث يقيم الثوّار في الجزائر و لوضع حدّ لتهريب الأسلحة إلى الثورة الجزائرية أقامت السلطات الاستعمارية الفرنسية سياجّا حديديّا شائكا على امتداد الحدود الجزائرية – التونسية, إلاّ أنّه لم يؤد إلى قطع جسور التواصل بين الثورة الجزائرية والحركة الوطنية التونسية .
وكانت الحركة الوطنية التونسية في ذلك الوقت تضمّ عناصر تكونّت في الزيتونة وتشبعّت بالثقافة العربية والإسلامية وتفاعلت مع الحركات الإصلاحية في المشرق العربي , ولم يكن لهذه العناصر أدنى نصيب في دوائر الحكم غداة الاستقلال , وكان الزعيم الوطني الأوحد هو الحبيب بورقيبة أحد الشخصيات التونسيةالمعروفة .
دورا كبيرا في تاريخ تونس المعاصرة لجهة اضطلاعه بصناعة القرار التونسي ولأزيد من ثلاثة عقود من الزمن , وقد أكمل بورقيبة تعليمه في جامعة السوربون في فرنسا والتي تخرجّ منها بشهادة البكالوريوس في الحقوق . وتجدر الإشارة إلى أنّ تونس لم تحصل على استقلالها عبر ثورة شعبية كما هو شأن الجزائر , بل إنّ فرنسا وافقت على منح الإستقلال الذاتي لتونس , وهذا لا يعني أنّ الحركة الوطنية التونسية لم يكن لها دور في محاربة الاستعمار الفرنسي , بل الأمر يعود إلى رغبة فرنسا في تخفيف العبئ الإستعماري عنها والتفرغ لمجابهة الثورة الجزائرية التي أقضّت مضاجعها .
و بعد إستقلال تونس وجد الحبيب بورقيبة نفسه على رأس الدولة التونسية الفتية والتي راح يصيغ ثوبها الفكري والسياسي والإيديولوجي صياغة لا تمت بصلة إلى الموروث العربي والإسلامي لتونس ولذلك كان الحبيب بورقيبة عرضة لكثير من الاتهامات من معارضيه من قبيل أنّه صنيعة فرنسية , وأنّ باريس لعبت دورا كبيرا في تعيينه على رأس الدولة التونسية, وكان لجوءه إلى سنّ مجموعة كبيرة من القوانين العلمانية يزيد في اتساع حجم هذه الاتهامات .
وقبل وصول الحبيب بورقيبة إلى سدّة الحكم في تونس عاشت الحركة الوطنية التونسية سلسلة من الانشقاقات والتصدعات أدّت إلى انسحاب العديد من الشخصيات من الحزب الدستوري الاشتراكي الذي تحولّ إلى حزب حاكم بعد الإستقلال وكان الوحيد في الساحة السياسية , لأنّ التعددية كانت ممنوعة في تونس و تمّت تصفية العديد من معارضي بورقيبة بعد الاستقلال ,وفرّ بعضهم إلى الجزائر والبعض الأخر توجهّ إلى بعض العواصم الأوروبية كباريس وجنيف وغيرهما .
وإذا كان خصوم الحبيب بورقيبة من الوطنيين و الإسلاميين يتهمونّه بجرّ تونس إلى حظيرة العلمانية المتوحشة فانّ بعض الثوّار الجزائريين كانوا يتهمون بورقيبةبأنّه كان يعمل على تطويق الثورة الجزائرية ويسرد عمار قليل وهو من المشاركين في الثورة الجزائرية في كتابه ملحمة الثورة الجزائرية هذه القصة التي مفادها أنّ البيت الأبيض في واشنطن استدعى في أواخر تشرين الثاني – نوفمبر – 1956 رئيس الحكومة التونسيةالحبيب بورقيبة لزيارة واشنطن والذي لبىّ الدعوة حيث قابل في واشنطن الرئيس الأمريكي ايزنهاور , وحول مائدة ايزنهاور دارت مفاوضات ومساومات حول القضيّة الجزائرية , وتمّ الاتفاق في نهايتها على أن تدفع حكومة واشنطن مساعدة اقتصادية لتونس مقابل أن يقوم الحبيب بورقيبة بدور فعّال لإقناع قادة الثورة الجزائرية بالكفّ عن القتال وإعادة الهدوء والحياة الطبيعية إلى الجزائرفي ظلّ فرنسا , و قد تعهدّ الحبيب بورقيبة بأن يقوم بوساطته لدى قادة الثورة الجزائرية في محاولة لإقناعهم بوقف القتال , كما فعل في تونس عندما قبل الإستقلال الذاتي , وكان أول تصريح له وهو على أدراج سلّم البيت الأبيض : نحن مع الغرب وسنظّل معه لا بحكم موقعنا الجغرافي فقط بل بحكم ثقافتنا وتقاليدنا , وحين عاد إلى تونس صرحّ قائلا : لقد إتفقت مع الرئيس الأمريكي ايزنهاور على أن نتوسطّ لحلّ القضية الجزائرية , وكان الرئيس التونسي على الدوام إلى جانب المشاريع السياسية المتعلقة بكيفية حلّ الأزمة الجزائرية التي كان يطرحها الجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا في ذلك الوقت .
ورد في كتاب الملحمة الجزائرية للأستاذ عمار قليل أنّ بورقيبة عندما عاد من واشنطن إلى تونس بدأ يجري اتصالات مع السياسيين في كل من مراكش والجزائروليبيا وتونس , وأوضح لهم بورقيبة أنّ هناك مشروعا لإقامة حلف جديد يجمع أقاليم الشمال الإفريقي بالإضافة إلى فرنسا و إسبانيا وايطاليا , وترعاه أمريكا وبريطانيا ويكون مكملاّ للحلف الأطلسي .وقد حاول بورقيبة إقناع المسؤولين في شمال إفريقيا بقبول المساهمة في الحلف الجديد الذي كان يحمل اسم حلف غربي البحر الأبيض المتوسط , وكاد هذا الحلف الجديد أن يتحولّ إلى واقع سياسي لكنّ الثورة الجزائرية نسفت فكرة هذا الحلف من أساسه . لقد أقترح الحبيب بورقيبة على قادة الثورةالجزائرية أن يوقفوا إطلاق النار , ويقبلوا بتشكيل حكومة في نطاق الاتحاد الفرنسي , ومن بعد ذلك تدخل الجزائر في حلف مع فرنسا بالاشتراك مع دول الشمال الإفريقي .
وكان بورقيبة يؤكّد لقادة جبهة التحرير الوطني على ضرورة القبول بهذه الفكرة كما كان ينوّه بمزايا الحلف . و ظلّ بورقيبة على امتداد ثلاثة أسابيع يحاول إقناع قادةالثورة الجزائرية بالفكرة , ولم تجد محاولاته على الإطلاق فتلاشى المشروع الأمريكي كما تلاشت محاولات بورقيبة .
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بدأت تتأسّس في تونس النواة الأولى للحركة الإسلامية التونسية, وقد تأثرّ مجموعة من المثقفين في ذلك الوقت بفكر المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب التصانيف الكثيرة من قبيل الصراع الفكري في البلاد المستعمرة , وشروط النهضة , وغيرها من التصانيف .
كما تأثرت هذه النخبة التونسية بفكر سيد قطب أحد أبرز منظرّي تنظيم الإخوان المسلمين في مصر , والمفكر الباكستاني أبو الأعلى المودودي , وأبرز قطب في هذه النخبة راشد الغنوشي وصالح كركر وعبد الفتّاح مورو وغيرهم .
وشكلّ هؤلاء جمعية إسلامية هي أقرب إلى خلية منظمة ومهيكلة والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم حركة الإتجاه الإسلامي , وقد ركزّ الاتجاه الإسلامي عمله في الجامعات والثانويات والمعاهد التربوية والمساجد , وتمكنّ من استقطاب العديد من الأنصار , وكان أهداف هذه الجماعة :
1- إعادة إحياء القيّم والمبادئ ومفردات الثقافة الإسلامية .
2- مقاومة الغزو الفكري وإفرازات التأثر بالعلمانية الغربية , وذلك من خلال وسائل دعوية لا علاقة لها بالعنف إطلاقا .
وكان الإتجاه الإسلامي بزعامة راشد الغنوشي يتحاشى الدخول في صراع مع السلطة القائمة والتي كان يريدها الحبيب بورقيبة علمانية على الطراز الغربي الخالص , إلى درجة أنّ بورقيبة كان يقول : يا ليت تونس تقع جغرافيّا قرب السويد أو الدانمارك لتخرج نهائيا من هذا المحيط العربي والإسلامي .
و يعتبر زعيم حركة الاتجاه الإسلامي راشد الغنوشي من الإنتليجانسيا الإسلامية في تونس , درس الفلسفة في جامعة دمشق في سوريا وكان في بداياته الفكرية متأثرا بالفكر القومي العربي وبالخط الناصري ثمّ عدل عن هذا الفكر عندما توالت الانتكاسات على العالم العربي بعد النكسات المتتالية مع الكيان الصهيوني .وعندما شرع في قراءة الكتب الإسلامية أخذ يتأثر بالأدبيات الإسلامية إلى أن تحولّ كلية إلى تبني الفكر الإسلامي و أعتبر أنّ البديل الإسلامي هو الأصلح للعالم العربي والإسلامي .
ولأنّه تحاشى الاصطدام بالسلطة الإسلامية فقد أستطاع أن يبنيّ لتنظيمه الذي كان يعرف بالاتجاه الإسلامي , والذي تحولّ مع مرور الأيام إلى ظاهرة أثارت مخاوف المشرفين على الوضع العام في تونس , كما أثارت مخاوف الحبيب بورقيبة الذي لاحق الأعضاء البارزين في جماعة الاتجاه الإسلامي . وقد تعرضّ راشد الغنوشيللاعتقال وربما هذا الذي أدىّ إلى تكريسه كزعيم إسلامي تونسي , وبدأ رصيده يرتفع كأهمّ خصم لنظام الحبيب بورقيبة العلماني .
ويحظر الدستور التونسيتأسيس أحزاب على أساس ديني إسلامي , و كانت الساحة السياسية في تونس حكرا على حزب السلطة والأحزاب القريبة من دوائر السلطة .
وعندما بدأت الحركة الإسلامية الجزائرية تبرز بقوة في بداية الثمانينيات بدأت حركة الاتجاه الإسلامي تعرض قوتها , فراحت تدعو إلى تظاهرات طلابيّة في الثانويات والجامعات , ودخلت في جدال واسع مع السلطة التونسيةخصوصا عندما أقرّت الحكومة التونسية ميثاق الأسرة والذي رأت فيه حركة الاتجاه الإسلامي خروجا صريحا عن الإسلام وتقليدا أعمى للمواثيق والدساتير الغربيّة .
في الثمانينات شهدت تونس مجموعة من التطورات الاجتماعية أفرزت ما يعرف بثورة الخبز في تونس , وكان الشارع التونسي عندها يغلي , وكانت الدوائر التونسية تخشى أن تستغل حركة الإتجاه الإسلامي هذا الوضع المزري وتخلط الأوراق خصوصا في ظلّ تتابع هواجس الثورة الإسلامية الإيرانية .
و كانت حركة الإتجاه الإسلامي تؤكد على حقها في الوجود ضمن الخارطة السياسية التونسية, وكانت تطالب فقط بتقويم الاعوجاج والتخلي عن سياسة التغريب و العملنة .
ولم يكن لحركة الاتجاه الإسلامي مشروع سياسي متكامل بل كانت تحرص على تفعيل المشروع الثقافي والاجتماعي بالدرجة الأولى , فبورقيبة كان حريصا على جعل تونس قطعة من الغرب , وكان يرفض حتى الانتماء العربي والإسلامي لتونس , وحتى جامع الزيتونة الذي لعب أكبر الأدوار في تاريخ تونس حولّه الحبيب بورقيبة إلى مجرّد متحف وأفرغه من دوره الحضاري . ولو أنّ بورقيبة انفتح إلى حدّ ما على القيم الإسلامية لما تمكنّت حركة الاتجاه الإسلامي من تهديد الوضع العام في يوم من الأيّام .
وما كان الحبيب بورقيبة الذي مارس سياسة الاستئصال مع حركة الاتجاه الإسلامي ليستمرّ في الحكم إذ أطاح به أقرب الناس إليه الجنرال زين العابدين بن علي أحد الضبّاط التونسيين الذين أنهوا تكوينهم العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية .
ولم يستوعب بعض المراقبين ما جرى في تونس , إذ أنّ الانقلاب الأبيض الذي أطاح بالحبيب بورقيبة تمّ بشكل سريع وكأنّه كان محضرّا له و قد فهم من هذا الانقلاب بأنّه انقلاب أمريكي على فرنسا في تونس , ولطالما كان الحبيب بورقيبة خريج جامعة السوربون صديقا حميما لفرنسا .
وقد اتسمّت بداية عهد زين العابدين بن علي في عام 1987 بالانفتاح على القوى السياسية والتأكيد على مبدأ الديموقراطية والتعددية السياسية , وبدورها حركة الاتجاه الإسلامي وتماشيّا مع المعطيات السياسية الجديدة غيرّت عنوانها لتحمل عنوانا جديدا هو حركة النهضة , لتؤكدّ أنّها لا تقوم على أساس ديني بل هي حزب كبقيةالأحزاب التونسية. وفي المرحلة الأولى من حكم الرئيس زين العابدين بن علي شاركت حركة النهضة في الانتخابات البلديّة حيث فازت في بعض المناطق التونسية.
ويعتبر الرئيس زين العابدين بن علي من أكثر التونسيين معرفة بملّف التيارات الإسلامية في تونس حيث شغل منصب وزير الداخلية , وتولى العديد من المناصب الأمنيّة قبل إطاحته بالرئيس الحبيب بورقيبة . وغداة استيلائه على السلطة أختار أن يكون خطابه السياسي منفتحا على الجميع , الأمر الذي دعا زعيم حركة النهضة إلى الترحيب بالعهد الجديد في تونس بزعامة زين العابدين بن علي .
لكنّ هذا الودّ المتبادل بين حركة النهضة والنظام الجديد بقيادة زين العابدين بن علي لم يستمر كثيرا , واللغم الذي فجرّ العلاقة بين الطرفين كان إعلان الجهات الرسمية في تونس عن اعتقالها لعناصر قياديّة من حركة النهضة والمتهمة بمحاولة اغتيال الرئيس زين العابدين بن علي بصواريخ ستنغر الأمريكية . وحسب رواية الجهات الرسمية فانّ مجموعة مسلحة قطنت في شقّة على مقربة من قصر قرطاج الرئاسي الذي يقطنه زين العابدين بن علي , وكانت تستعد لإطلاق صاروخ على القصر الرئاسي حيث ستنتهي المسألة باغتيال الرئيس التونسي, وبسبب هذا السيناريو الذي أوردته السلطة التونسيةوكأنّه سيناريو فيلم أمريكي , راحت وزارة الداخليّة تعتقل مئات العناصر النهضوية , وفرّت قيادات النهضة إلى الخارج فيما توجّه راشد الغنوشي إلى الجزائر , وكانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في ذلك الوقت في أوج تألقها السياسي .
وعندما أصدرت المحكمة العليا التونسية حكما يقضي بإعدام راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة , أوفدت الحكومة التونسية إلى الجزائر من يطالب برأس الغنوشيبشكل رسمي , وقد كشفت مجلة البديل الجزائرية الناطقة بلسان الحركة من أجل الديموقراطية التي كان يترأسها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة أنّ تونسأوفدت إلى الجزائر فرقة أمنية يطلق عليها اسم فرقة النمور السود وذلك لتنفيذ حكم الإعدام في حقّ راشد الغنوشي لكنّها لم تفلح في هذه المهمة .
وأضطّر الغنوشي عندها إلى مغادرة الجزائر وتوجّه إلى السودان , حيث منحته الخرطوم جواز سفر ديبلوماسي كان يستخدمه الغنوشي في تنقلاته هنا وهناك إلى أن توجّه إلى العاصمة البريطانيّة لندن وهناك طلب اللجوء السياسي .
وكانت الحكومة التونسيةتتهم الغنوشي بأنّه كان يتلقى أموالا من الحكومة الإيرانيّة , و أنّه يريد تنفيذ مشروع إسلامي في تونس مماثل للمشروع الإيراني .
وفي منفاه البريطاني يواصل راشد الغنوشي الإشراف على حركة النهضة التونسية بعد أن نجحت السلطة التونسيةفي استئصالها من الواقع السياسي التونسي, ولجأت من أجل تحقيق ذلك إلى أفظع الأساليب الأمنية باعتراف منظمات حقوقيّة دولية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اضف تعليقك.. واترك بصمتك