الشيخ خميس ترنان يعتبر المثال الأول لإثبات الروح التونسية في الوسط الفني وبين الشبان ويرجع إليه اكبر نصيب فيما سجل من المالوف سواء عن طريق الكتابة أو بواسطة إذاعات الرشيدية وفرقة الإذاعة، وفي المجموعة التي سجلتها الرشيدية لإذاعة باريس والتي تعتبر من التراث ويلاحظ بروز صوته فيها وهي تشتمل على 12 نوبة مالوف فقد رفع لواء الفن مدة نصف قرن كان المثال الأعلى في الأخلاق الحميدة والسلوك الحسن.
في خريف 1894 ولد خميس بن علي ترنان في أحد أزقة حومة الربع الجديدة بالمدينة العتيقة ببنزرت وقد لقي عناية كبيرة من طرف أعمامه لأنه يحمل اسم والدهم، بالاضافة الى كونه الابن البكر لأخيهم، عندما بلغ سن الخامسة دخل الى الكتّاب بنهج الزنايدية وتعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد أشهر مؤدبي عصره ويدعى خميس بن محمد الشافعي.كان يصاحب عمه أحمد ترنان شيخ زاوية سيدي بن عيسى الى زاوية سيدي عبد القادر فيستمتع بانشاد «العيساوية» الذي يشتمل على مدائح وأذكار ومالوف جلها من اللون الصوفي. هذه الطقوس الفنية أثّرت تأثيرا كبيرا في نفسية الطفل خميس الذي كان يواكب حلقات العمل في الزوايا بانتظام، كذلك حلقات السلامية والمولدية فكوّن خميس ترنان لنفسه رصيدا من الفن الصوفي وهو لا يتجاوز التاسعة من العمر. ولأن الفنان الطموح لا يقنع بسماع لون واحد من الفن فإن خميس ترنان المنشد في السلامية والقادرية فكّّر في صناعة آلة عزف وترية فصنع «القمبري المغربي» ذا الوترين وعزف عليه ما حفظه من ألحان بقيت راسخة في ذهنه، ثم انتقل الى العزف على «المندولينة» التي كانت منتشرة بكثرة انذاك، وقد تدرب على هذه الآلة بدون اعانة أحد، واشتهر بعزفه الممتاز على ««المندولينة» أول حياته الفنية ببنزرت.
لقد كان خميس ترنان ينتقد دائما الفنان الذي يجعل من الفن مطية لممارسة شهواته، ويرى ان الفن عملا مقدّّسا ورسالة الفنان لا تقل أهمية عن رسالة الاستاذ ذلك لأن والده كان دائما يعارضه في خدمة الفن لأن سمعة الفنان في تلك الحقبة كانت سيئة وتجلب السخرية لصاحبها.
بعد ان حذق الاغاني والادوار والمواويل الشرقية التحق بفرقة «كوهين بالشيشي» و»شميعن» وهي من الفرق اليهودية المحترفة التي عملت ببنزرت في العشرية الاولى والعشرية الثانية، وذلك للتعريف بنفسه اكثر كفنان يجب ان يكون له جمهور، انضمام خميس ترنان لهذه الفرقة شكل نقطة تحول هامة في حياته الفنية خصوصا بعد ان أتقن العزف على الة العود الشرقي التي أهداها له أحد المعجبين بفنه، فشعر بأنه فنان مرغوب فيه من طرف الجمهور وأصبح أعيان البلاد يتسابقون في دعوته الى بيوتهم لإحياء السهرات الفنية.
طريقته في التلحين
كان له ميزة خاصة حيث كان لا يلحن القطعة الشعرية المعروضة عليه الا بعد ان يتأثر بها ويندمج فيها حتى لا يحسّ بما حوله ولا يشعر بما يجري امام عينيه.
آثاره الفنية
كان خميس ترنان من الذين ساهموا بشكل كبير وملحوظ في نشر الاغنية التونسية والتعريف بها كذلك الالوان الفنية الاخرى التي عرف بها في مطلع حياته الفنية.
فقد سجل على اسطوانات بيضافون مجموعة من الاغاني والموشحات والمواويل من النوع البغدادي والعروبي التونسي، وعدة تقاسيم منفردة على آلة العود المفضلة لديه.
يتجاوز عدد الاسطوانات المسجلة المائة اسطوانة من انشاده وعزفه، كما سجل ايضا في باريس اسطوانات عديدة، لكنها للأسف فُقدت لعدم وجود أرشيف للأعمال الموسيقية.
تلحينه لصليحة
بدأ خميس ترنان التلحين سنة 1928 اي وعمره 34 سنة وأول لحن كان «هل درى ظبي الحمى» في مقام رمل الماية وقد كان لهذا اللحن الوقع الحسن في نفوس المستمعين.
أول لحن لصليحة كان سنة 1941 وخصّها بروائع ألحانه حيث شدت بأروع وأعذب ألحانه، ليس بينها واحد يشبه الآخر في الأسلوب وليس منها لحن لم يبلغ أقصى مراتب التقدير والاعجاب حتى بلغت معه مجدا فنيا خلّّدها على مرّ الزمان. الى جانب تلحينه لصليحة لحّن لشافية رشدي التي عاصرته في المعهد الرشيدي منذ تأسيسه، كما لحن لفتحية خيري، وشبيلة راشد ابنة صليحة، وآخر مطربة لحّن لها هي نعمة.
تجديده في الأغاني الفردية
أدخل خميس ترنان على أغاني صليحة تجديدا جذريا اذ جعلها تغني القصة ذات المعنى المتكامل من الناحية التأليفية وتلقيها بطريقة مبتكرة.
لا تزال ألحان خميس ترنان صادحة الى غاية اليوم وستظل ايضا، مثلما سيظل الضالعون ممن يمتهنون او يهينون الفن يرددونها من أغاني صليحة فيصعدون ويشتهرون وينتشرون عن طريق هذا الارث الثقافي الثمين الغالي جدا جدا.. والامر بالتأكيد لا يخفى على أحد، الا ان ما خفي هو الشيخ خميس ترنان في خضم مثل هذه الاشياء بكل «قنواتها» و»مهرجاناتها» و»أنترناتها» وما لفّّ لفها. ولنسأل ـ إن شئنا ـ من يعرف هذا الرجل من الشباب لدينا وسوف تصعق الاجابة كل غيور على الفن الجميل والزمن الجميل ويتبررون بالظروف ونسق العصر ومشاغل الدنيا رغم ان هذه الدنيا لديهم تقوم ولا تقعد على هزّة من ردف «هيفاء» ومثيلاتها والكبار منهم قبل الصغار، ولكي لا يتهموننا بالتهويل والتشاؤم نقول في الختام ان تكريم العمالقة واجب وطني والتكريم لا يكون مناسباتيا ولا شكليا انما يكون قائما على الدوام والاشكال متعددة للتجسيم، يكفي فقط ان نُبل الغاية وسمو الهدف.. والهدف من الانجاز المطلوب أساسا هو حماية أصالة فن المالوف التونسي من الاندثار ذات يوم، ولا أجدر في هذا الغرض من احداث مهرجان وطني يحمل اسم هذا المبدع الفنان «خميس ترنان».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اضف تعليقك.. واترك بصمتك